وكاد أبو مسلم هذه المرة أن يعطيه الدرهم لولا أن الجوع وخزه وخزة ذكرته تلك المسكينة في بيته , ونظر إلى الجراب وقد جاء به فارغا .. أيرجع به فارغا إن هو تصدق بدرهمه اليتيم ..
وأحس أبو مسلم كأن الجراب يعاتبه ..
"يا أبا مسلم أتراك تصنع معروفا لغريب؟؟ وأحق به من هو أقرب إليك والأقربون أولى؟؟!
إنما أنا في جوف البيت كالمعدة في جوف أحدكم .. فإن أنا شبعت شبع أهل البيت وإن جعت جاعوا , وأنا منذ ثلاثة ايام لم يدخل جوفي شيء , فأطعمي تطعم ويطعم أهلك ..
يا أبا مسلم ما أحد من الناس من حولك إلا وهو باب رزق لهذا السائل , فإن استغلق عليه باب طرق غيرها , ولا يعدم رجلا ميسورا بارك الله له في ذات قلبه ما بارك له في ذات جيبه , فارفق بنفسك وقل له قولا معروفا وامض لشأنك ..
فقال له أبو مسلم "يسر الله لك يا أخي" ومضى لحانوت آخر ..
فما خطى خطوات حتى تبعه السائل يستصرخه "ناشدتك الله لا تردني وقد قصدك
وتظاهر أبو مسلم أنه لم يسمعه , وهم أن يبتعد عنه , فإذا خفقة من فؤاده , وأحس أبو مسلم همس فؤاده في سره
" يا أبا مسلم عهدي بك أن ليس في قلبك موضع لشيء من حطام الدنيا .. فما لك تبخل؟؟!
أتخاف على نفسك أم على زوجك؟؟ فالله ارحم بك من نفسك وأرأف منك بزوجك؟؟
يا أبا مسلم هذا الدرهم في يدك درهم لا غير , وفي يد السائل عشر حسنات , ودعوة ملهوف أغاثه الله بك , وقرضا تقرضه الله فطب نفسا ..
يا أبا مسلم ألا تحب أن تكون ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ..
يا أبا مسلم أنا معك ما جعلتني لله خالصا وحفظتني من أدران الدنيا وأهواء النفس, وإلا انقلبت عليك وأشرب فيّ حب الدنيا مع الآخرة وفسدت وكان ثمة فساد الجسد ..
يا أبا مسلم ما أنا منك إلا كزجاجة تطالع بها وجه السماء , فتارة هو صاف مشرق , وتارة قاتم مغبر, وتارة هو مدلهم معتم , ومرد الأمر في ذلك لا لوجه السماء بل للون الزجاجة ..
ومن ذلك يستحيل الذهب في عين الولي إلى تراب أو معنى من التراب إذ ينظر له من زجاجة قلبه الصافية المشرقة التي تريه الحقيقة كما يجب ..
فإذا انصبغت زجاجة القلب بألوان النفس من الحرص والطمع والبخل لبست الحقائق غير معانيها , وخرج الذهب من معنى التراب لمعنى الذهب , فإن زاد حرص القلب وطمع النفس ارتفع الذهب عن مرتبته وصار غاية تراد وتبتغى , فإن طغى الطمع في القلب وأعماه الحرص خرج الذهب من كونه غاية وصار إلها يعبد , ومن ذلك ترى في الناس مِن عُمي البصيرة من ربما افتدى ماله بروحه ..
وأنت يا أبا مسلم لم تزل مذ شرح الله صدرك للإسلام تجلي صفحة قلبك بالنور حتى صارت الدنيا عندك أهون من ذبابة وصار تبرها تربا , وماسها زجاجا , ودرها بعرا , فلا يجدن الحرص إلى قلبك سبيلا , ولا تجدن الدنيا إلى قلبك منفذا , وهذا الدرهم في جيبك نفثة دخان على صحيفة قلبك إن أنت أمسكته تغير وجه الزجاجة فتغير شكل الدنيا في عينك , وإن أنت تصدقت به نزعت الحرص من قلبك , وغسلت وجهه بالنور , ورجعت أبا مسلم الذي أعرفه ..
فتصدق به أبا مسلم {إن الله يجزي المتصدقين} ..
فطابت نفس أبي مسلم , وأحس في فؤاده بردا لهذا الوارد , فدفع الدرهم للسائل .. وتهلل وجهه ومضى يرسل الدعوات تبارك أبا مسلم ..
ذهب السائل بالدرهم ونظر أبو مسلم لجرابه الفارغ , ومد عينه لكيس الدقيق في الحانوت , فقال الحمد لله على كل حال .. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ..
وقفل راجعا إلى البيت وأخجله أن يرجع بالجراب فارغا فملأه من نشارة الخشب ..
وقف أبو مسلم عند الباب وكبر [وكانت تلك إشارة بينه وبين أم مسلم] فكبرت أم مسلم من داخل البيت , فما فتحت الباب حتى دفع الجراب على استحياء وطار على وجهه قِبَلَ المسجد إذ لم يستطع الدخول بجراب حشوه نشارة خشب ..
صلى أبو مسلم ورجع إلى البيت , وفي طريقه كان يحدث نفسه بما عساه أن يقول لها , فدخل البيت وهو ينتظرعتاب أم مسلم , فما استوى جالسا حتى أتته برغيف خبز أبيض!! فعجب أبو مسلم وقال يا أم مسلم أنّى لك هذا؟؟!!
فحملقت أم مسلم به وقالت سبحان من لا ينسى؟؟! يا رجل ألم تأتنا أنت بالدقيق .. لكن من أين جئت به؟؟ فوالله ما رأيت دقيقا قط أجود منه ..
فوقعت كلمة أم مسلم من قلب الرجل موقع البشارة تأتي بعد شدة وكرب , أو موقع الغيث يأتي بعد يبس وجدب , فلم يتمالك نفسه وراحت دموعه تتساتل على خديه -وهو يأكل- شكرا لله .. وأم مسلم متعجبة من بكائه ولا تدري ما بقلبه ..
سبحان الله .. إن الذي أحال الدرهم وهو درهم لمعنى التراب في قلب أبي مسلم , أحال نشارة الخشب وهي نشارة دقيقا في يد أبي مسلم ..
[/ color]
[/color][/color]
ـ[وليد]ــــــــ[11 - 05 - 2009, 01:46 م]ـ
بارك الله لك يا أخي
وأرجو أن نرى منك غيرها