تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما أسلفتُ، الشجاعة دون رأي سديد يضعها في موضعها السليم، تكون وبالا على صاحبها، ليس فقط في شجاعة الحروب و القتال، بل حتى في شجاعة التعبير عن الرأي، فإذا ما كان الرأي فاسدا، فإن الشجاعة في ذكره تعيب قائله و تضره و لاتنفعه، فالشجاعة في إبداء الرأي متعلقة بصحة هذا الرأي و سداده، و بالتالي فسداد الرأي لابد و أن يسبق الشجاعة في الحالتين.

أراه في الأبيات (باستثناء البيت الأول) يقارن بين الرأي وهو أمر فكري عقلي نفسي والدليل قوله “لولا العقول”، وبين التطاعن وهو أمر جسدي قتالي

أين فهمت معنى المقارنة بين الرأي و القتال؟

ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقرانِ

لاحظي (قبل) هنا أيضا فهي لا تفيد المقارنة.

يقول المتنبي: قد يطعن الفتى الأعداء برأيه قبل أن يطعنهم بسلاحه.

و الطعن بالرأي تعبير مجازي، المقصود منه الحيلة و المكيدة التي تستخدم في قتال الأعداء، بينما الطعن الآخر هو تطاعن الرماح أثناء القتال، وهذا معنى سليم و موفق، فالحيلة و المكيدة قد توقع بين الأعداء و تضعفهم قبل القتال المباشر، فالجمع بين الرأي العقلي (الحيلة) و التطاعن الجسدي (القتال) في البيت منسجم تماما، فهو لا يقارن أو يفاضل بين الرأي و الطعن، بل يقول إن الحيلة في المعركة قد توقع بين الأعداء قبل قتالهم مباشرة، فتكون للرأي (المكيدة) ثمرة تسبق ثمرة القتال.

ولهذا ذكر الضيغم وهو الأسد واسع الشدق.

ذكره للضيغم ليس توكيدا على بيت التطاعن، بل انتقالا لنقطة آخرى مفادها أن الإنسان شرف بعقله، فلو أن المسألة مسألة قتال فقط، فقتال الإنسان دون قتال الضياغم، و لكن الإنسان جمع إلى قتاله عقلا يرشده، فبه شرف.

وبالتالي لكأن أصلح لو قال في البيت الأول مثلا “الرأي قبل طعن الفرسان” أو “الرأي قبل كر الشجعان” بدلا من الرأي قبل شجاعة الشجعان”. فالطعن والفر والكر أمور فيها قوة جسدية وتتلاءم مع المعنى العام ومع المنطق، بينما الشجاعة صفة نفسية عقلية قد تكون شجاعة رأي وقد تكون شجاعة جسد؟ وبالتالي لا مجال للمقابلة بين الشجاعة وبين الرأي، فالعلاقة علاقة تعاون وتكامل لا تضاد وافتراق.

جل كلامك مبني على أن المتنبي قابل و ضادد و فرق بين الرأي و الشجاعة، في حين أن كل ما ذكره المتنبي يشير إلى (علاقة تعاون و تكامل - كما قلت-) يكون فيها سداد الرأي سابقا للشجاعة، بدليل قوله (فإذا هما اجتمعا ... )، فهذا إقرار بضرورتهما معا لا بضرورة واحد دون الآخر.

أعلم أن الشجاعة لازمة من لوازم القتال والتطاعن … إلخ وقد يكون ذكره لها من باب التغليب، لكن يوجد لوازم غيرها، وتكون بهذا ظلمت. كما أن الشجاعة ليست محصورة بأمور القتال، بل هي مطلوبة في مجال الرأي والفكر، وهذه نقطتي الأساسية.

قد أجبتُ عن هذا مسبقا، فحتى في لوازم الشجاعة الأخرى كشجاعة الرأي و الفكر، فسلامة الرأي والفكر تسبق الشجاعة في إبدائهما، لأن الشجاعة في إبداء رأي و فكر خاطئ تسوء مبديها و تفضحه، و بالتالي فمنطق المتنبي سليم في تقديم سلامة الرأي على الشجاعة أيا كانت هذه الشجاعة.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير