جاء في اللسان في قوله تعالى:) فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ (المعلقة: المرأة التي لا ينصفها زوجها فلا هي ممسكة ولا هي مطلقة. قلت: والأصل في (المعلقة) التي في الآية الكريمة، أنها صفة للدلو التي علقت من حبلها بالبكرة ثم تدلت في فراغ البئر فلا هي في قعره، ولا هي عند رأسه، ثم استعيرت صفة الدلو وهي (المعلقة) إلى المرأة التي لا هي ممسكة ولا هي مطلقة.
ولفظ المعلقة قي الآية الكريمة مشعِرٌ بذم فعل التعليق، لذلك جاء النهي عنه.
ـ6ـ
أما لفظ المعلقة في قولهم:" هذه معلقة امرئ القيس" فلفظ مشعِرٌ بالمدح، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
قلت: جاء هذا الاختلاف من اختلاف الموصوفين، فالمعلقة في الآية الكريمة هي الدلو كما مر بيانه، أما المعلقة التي في قولهم:" هذه معلقة امرئ القيس" فهي الثريا التي في السماء. كأني بك وقد تعجلت إنكار هذا عليّ، ولا أملك إلاّ أن أدعوك إلى الصبر حتى أُتمَّ.
قلت: إنك تعلم أن امرئ القيس من أقدم شعراء الجاهلية الذين حُفِظت أشعارهم، وأنه قد وضع للشعراء سنناً ساروا عليها واتبعوه فيها، من الوقوف على الطلل، والرحلة وذكر النساء، وهذا أمر مقررٌ عند العلماء.
وإنك تعلم، أن امرأ القيس هو شاعر المعلقات الأول (1)، فلا يقدم عليه أحد،أتعلم لِمَ هذا؟ السبب في هذا ما ذكرته لك آنفاً من أنه صنع سنناً وطرائق سار عليه الشعراء من بعده، فكأنه هو الأصل والجذر، وهم الفروع والغصون. ولعلك سمعت بقول امرئ القيس في قصيدته المشهورة " قفا نبكِ" وهو يقول:
ألا أيها الليل الطويل ألا انْجَلِ
فيالك من ليلٍ كأن نجومه
كأن الثريا عُلِّقت في مصامها بصبحٍ، وما الإصباح منك بأمثَلِ
بكل مُغار الفتل شدت بيَذبُلِ
بأمراس كتانٍ إلى صُمِّ جَندَلِ
انظر إلى الصورة الأخيرة " كان الثريا عُلِّقت في مصامها" وهي صورة لم يُسبق إليها امرؤ القيس، ولهذا فقد أُعجب الناس بهذه الصورة الغريبة الجديدة ذلك أنه لما ذَكِر (المَصام) وهو مربط الفرس , فمآل الحال أن الشاعر يشبه الثريا بفرس جموح قُيِّدت في مربطها بحبال كتان , ثم ربطت هذه الحبال إلى صخرة ثقيلة من أجل كبح حركة الفرس ومنعها من الانطلاق.
وإذا كان المشبه به وهو (الفرس) محذوفاً فإن الشاعر قد ترك ما يدل عليه وهو (المصام) ,وبإرجاع المشبه به إلى موضعه من الصورة يصير تمامها على هذا النحو (كأن الثريا إذ عُلِّقت في السماء فرس قُيِّدت في مصامها بأمراس كتانٍٍ إلى صم جندل) وقد أراد الشاعر من هذه الصورة التي توحي بالثقل والبطء أن يُصور ثقل الليل عليه وبطء حركته. ومن ثَم فمن أجل هذه الصورة الغريبة الجديدة سموا قصيدة امرئ القيس التي مطلعها " قفا نَبْكِ" بقصيدة (الثريا المعلقة)، وكان من إعجابهم بها أن أحدهم كان يقول لصاحبه:" أتحفظ قصيدة امرئ القيس التي يذكر فيها الثريا المعلقة؟ " ثم اختزلوا الكلام فقال السائل:" أتحفظ قصيدة امرئ القيس المعلقة؟ " ثم صارت صفة (المعلقة) اسم علم على قصيدة امرئ القيس فصار أحدهم يقول لصاحبه" أتحفظ معلقة امرئ القيس" وهو كقولك:" أتحفظ قصيدة امرئ القيس التي على اللام؟ " أو كقولك:" أتحفظ قصيدة امرئ القيس التي مطلعها " قفا نبكِ" ".
ـ7ـ
ثم تتابع الشعراء من بعد امرئ القيس كلٌّ يريد أن يأتي بقصيدة على نهج قصيدة امرئ القيس التي مطلعها " قفا نبك" أو قل التي صارت تسمى بالمعلقة. فجاء طرفة , وزهير , ولبيد , وعمرو, وعنترة , والحارث, والأعشى , والنابغة , وعبيد, فنظم كلٌّ منهم قصيدة على نهج قصيدة امرئ القيس في الطول والحسن, وتقارب الموضوعات , فلما رأى الناس هذه القصائد , سموا كلّ قصيدة من تلك القصائد بالمعلقة: فقالوا: معلقة طرفة , ومعلقة زهير .... وهكذا.
وهذه التسمية من جهة تشبيه قصائدهم بقصيدة امرئ القيس المسماة بالمعلقة. فمجمل الأمر أنهم حذفوا المشبه وهو " قصائدهم" وصرحوا بالمشبه به وهو "المعلقة" على سبيل الاستعارة التصريحية.
ـ 8 ـ
وغير خفي عليك أن العرب قد تسمي الشاعر بكلمة وردت في شعره كما سمت المُرَقِّشَ (1) بهذا اللقب لقوله:
الدارُ وَحْشٌ والرسوم كما رَقَّش َفي ظهر الأديم قَلَمْ
إذاً فليس غريباً أن تسمي العرب قصيدة امرئ القيس التي مطلعها (قفا بنك) بالقصيدة المعلقة من أجل كلمة وردت فيها وهي قوله (كأن الثريا عُلِّقت).
ـ9ـ
ومجمل القول: إن (المعلقة) اسم مفعول نقل من الصفة إلى العلمية على قصيدة امرئ القيس, ثم سميت كل قصيدة من قصائد التسعة الباقين بالمعلقة من جهة استعارة الاسم الذي غلب على قصيدة امرئ القيس, وعلة الاستعارة أنّ القصائد التسع أشبهت قصيدة امرئ القيس في الطول والحسن.
فإن قيل: فلِمَ لم يلقبوا امرأ القيس (بالمُعَلِّق)؟ قلت:لأن بعضهم قال لبعض في أول الأمر "أتحفظ قصيدة امرئ القيس التي يذكر فيها الثريا المعلقة "فجاؤوا بالمعلقة على الصفة للثريا ,ثم استقلت الصفة بنفسها فنزلت منزلة اسم العلم.
ولما كان المهلهل أقدم زمناً من امرئ القيس أو كان معاصرا ًله, لم يدرج اسمه في أسماء الشعراء الذين اقتفوا قصيدة امرئ القيس حتى سميت قصائدهم بالمعلقات.
فالمهلهل وامرؤ القيس كانا مبتكرين, وكان الشعراء يقتفون آثارهما, وسنأتي على بيان هذا في باب مراحل الشعر الجاهلي إن شاء الله
أصيل الصيف الأصولي
ahmad1haza***********
الموقع الشبكي: أصيل الصيف الأصولي