لكن جدل الكلام الموسيقى، وإن كان عاما في الشعر الموزون، قد يكون جدلا زائفا، وذلك في حال عدم التناغم، أو التنافر، بين الانطباعات والأحاسيس والصور التخييلية والمعاني التي يستدعيها الكلام، وبين تلك التي تستدعيها موسيقى هذا الكلام. فتتدنى فاعلية الموسيقى بتوتر البنية الإيقاعية والبنية الدلالية. ومن الأمثلة الشعرية على ذلك شعر أدونيس الموزون، حسبما يظهر صلاح فضل أن الدلالة التغييبية في شعر أدونيس تبطل فاعلية الغنائية التي تبنى على مستوى الإيقاع، وأن التشتت الدلالي يجعل الإشباع الإيقاعي في القوافي «منزوع الشجن وباهت الغنائية» (40).
ويظهر بذلك أن العناية بالموسيقى المولدة بالوزن والقافية وجرس الأصوات المكررة لا تكسر روح الشعر على حد زعم أدبيات الحداثة، إنما الذي يكسرها فعلا تنافر مكونات القصيدة وتشتت بناها، بما يؤدي إلى تمزيق الشعور بالتواصل معها، «ذلك أن بؤرة الاهتمام في عملية التلقي لا يمكن لها أن تتوزع في نقطتين متخالفتين في الآن ذاته. وهذه حقيقة تظهرها البحوث الفيزيولوجية المحدثة» (41).
وحتى لو سلمنا بشعرية قصيدة النثر، وأن انتظامها البنائي يعوض فوضاها الظاهرية، فإنها تبقى شكلا شعريا محدثا لا جذور له ولا أسلاف، ولذلك لم يقع طاهر رياض في حبائل إغراءاته، إذ لم ينزع إلى اجتثاث التراث، أو إحداث قطيعة معه، وشعره امتداد لهذا التراث كما يقول: «أنا ابن هذا التراث، أنا الشجرة التي مهما أخذت من الشمس والهواء، فلن تكف عن حاجتها إلى الغذاء من جذورها، لا أتصور شاعرا مبتوت الأواصر بتراثه، فكيف بتراث غني ديمومي الحيوية كتراثنا العربي» (42). ولم يقنع بتهافت ما ترسخ تاريخيا من ربط الشعر بالوزن والقافية بدعوى أنه تحديد خارجي للشعر بمكونين شكليين، إذ يرى أن القصيدة ابنة للموسيقى، ولا كون للشعر إلا بتراسل اللغة- الموسيقى.
ومهما يكن الخلاف حول اعتبار الوزن والقافية شرطين وجوديين للشعر (ضمن شروط أخرى طبعا) فإنهما كذلك في شعر طاهر رياض الذي يتجلى فيه جهد الشاعر الواعي وحرصه البالغ على نمنمة اللغة، فكلماته كما يصفها الشاعر محمود درويش «مصقولة بمهارة صقل الماس، حتى لنكاد نخشى عليها من المحو، فهو يعرف أن الحذف كفاءة الصنعة» (43). وصوفيته الشعرية تجعل من قصائده «تمرينا دائما على الحذف والنمنمة والتخلص من الزوائد والإفاضات» (44). وروحة الأكبرية لا تطيق كسر الحرف أو اختراقه أو تحطيمه، بل تكتفي بظلالات وهجه في مرآة القلب، فلغته كما يقول منعمة، مرفهة الأديم (45).
ومثل هذه اللغة المرتعشة من فرط رهافتها وتأنقها تتكسر رعشتها وتفقد ألق تأنقها على عتبات فوضى انفلات الوزن والقافية. فالوزن والقافية شرطان وجوديان لشعره من داخل الشعر نفسه، وإن اتفق مع مشروطيتهما الخارجية في النظرية العروضية التي تقف الشعر على توفرهما، ذلك أن هجرهما في شعره يبدد كثيرا من الجهد المبذول في نحت اللغة ونمنمتها، ولا بد.
وعلى مزاج اللغة المنعمة كان مزاج الوزن، إذ لم يحفل الشاعر بتنويع الأوزان كثيرا في شعره، فالإصدار الأول (شهوة الريح) تأسس على نظام الشعر العمودي، وهيمن فيه إيقاع الخفيف (وهو من البحور الممزوجة)، والإصدار الثاني (طقوس الطين) زاوج بين العمودي وشعر التفعيلة، وشدد كسابقه على نغم الخفيف، والإصدارات اللاحقة (العصا العرجاء، حلاج الوقت، الأشجار على مهلها) نحت نحو شعر التفعيلة، والبحور الصافية (متقارب، متدارك، رمل، كامل)، وهيمن فيها جميعا نغم المتقارب (46). والإصدار الأخير (كأنه ليل) قصيدة طويلة مؤسسة على الكامل.
وبالإضافة إلى انحسار سعة التنوع في الأوزان، لم يحفل الشاعر بتنويع صور التفعيلات، فعادة ما يكتفي بصورتين للتفعيلة، وإن جاءت ثالثة ففي منطقة القافية لا غير. وقد ينعى هذا الأسلوب بالرتابة، لأنه لا ينوع بالأوزان ولا بوحداتها الموسيقية، وإن كان رتيبا فحسبه أن مثل هذه الرتابة تبرز النغم الموسيقي للتفعيلة فيرتفع جرسها، وتؤمن الاتساق الكمالي لإيقاعها فتدعم اللغة المنعمة بالوزن المنعم. من ذلك قوله:
لأن الذي يشره الآن في جسدي نحلة لا عسلْ
(فعولن فعولن فعولن فعول فعولن فعولن فعو)
أنام لكي يحلم الموت بي (فعول فعولن فعولن فعول)
وأسير لكي لا أصلْ (حلاج الوقت، 29)
(فعول فعولن فعو)
¥