تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأقدم للمصطلح كما تقدم وصفه، أي (العومنة) أو جعل الشيء عاميا.

ويتضح من هذين المعجمبين اللذين أوردا مصطلح العلمانية لأول مرة واللذين أنجزهما كاتبان نصرانيان هما لويس بقطر وبطرس البستاني أنهما يريدان بـ "عالمية" بفتح العين واللام (لويس بقطر) و (عَلمانية) بفتح العين (بطرس البستاني) ترجمة المفهوم القديم laicism/laïcisme جعل الشيء عاميا) وليس مفهوم الـ ( secularism) ولا مفهوم الـ ( laïcité) اللاحقين.

يتضح مما سبق:

1. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة")، مفهوم قديم قدم المؤسسات الدينية النصرانية. وقد وُضع مصطلح "العلمانية" في العربية للدلالة على هذا المفهوم بالضبط وليس على غيره.

2. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى "الدنيوية" ( secularism) نشأ في إنكلترا في القرن التاسع عشر (1846)، وأن الترجمة العربية الدقيقة له هي "الزمانية"، "الدهرية" وليس "العلمانية".

3. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى ( laïcité) هو إيديولوجية نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية (حوالي 1880) وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة"!

وعليه فإننا نستنتج أن التدليل على هذه المفاهيم الثلاثة بالعربية بمصطلح "العلمانية" وحده حالة شاذة تؤدي بالمثقفين العرب غير العارفين باللغات الأصلية وغير المطلعين على التاريخ الغربي اطلاعا كافيا، إلى الوقوع في أخطاء جسيمة تجعلهم ينتهون إلى نتائج خاطئة أيضا. ويتزامن هذا الجهل بالمصطلحات والمفاهيم الأصلية مع الأحكام المسبقة لدى الكثيرين من العلمانيين العرب أحاديي التفكير والنظر الذين لا يرون من هذا المصطلح إلا الإيديولوجية العلمانية الفرنسية المتطرفة التي نشأت بعد الثورة الفرنسية، والتي لا تزال تحول ـ على سبيل المثال ـ دون نشوء أحزاب مسيحية تحكم البلاد مثلما هي الحال عليه في بلجيكا وألمانيا وهولندة وغيرها من دول الغرب "العلماني"، ودون تمويل دور عبادة الديانات المعترف بها ومؤسساتها الأخرى. (10) فهذه بلجيكا، على سبيل المثال لا الحصر، يحكمها الحزب المسيحي الديمواقراطي منذ أكثر من نصف قرن! وهذا محال في فرنسا التي تأخذ من محاربة الدين عقيدة لها يدين به أكثر العلمانيين العرب إن لم يكن جلهم .. ولكن هذا موضوع الحديث في التمييز بين العلمانيتين العلمانية المتطرفة (العلمانية الشاملة عند عبدالوهاب المسيري) والعلمانية الانسنية (العلمانية الجزئية عند عبدالوهاب المسيري)، وليس موضوع المصطلح فحسب.

علاقة مصطلحنا بالسريانية:

إن السريان نصارى كان لهم (ولا يزال) كهنوت ولاهوت معقد، وفرقهم الدينية من أكثر فرق النصرانية جدلا .. وأهم بطريقين لهما في هذا السياق هما نسطور (القرن الخامس) الذي كان من بطارقة البيزنطيين، ويعقوب البرادعي (القرن السادس). وقد اتهم نسطور بالهرطقة وطرد من الكنيسة نتيجة لاحتدام الجدل آنذاك في طبيعة عيسى بن مريم وطبيعة أمه، عليهما السلام. وكان نسطور قد ذهب إلى أن المسيح مكون من طبيعتين واحدة ناسوتية وأخرى لاهوتية، لم تتحدا لتصبحا طبيعة واحدة على الرغم من بقائها في جسد واحد بل بقيتا منفصلتين عن بعضهما بعضا مثلما يبقى الماء والزيت الموجودين في وعاء واحد مفصلين عن بعضهما البعض .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم غير مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي. أما يعقوب فكان يرى أن لعيسى طبيعتين ناسوتية ولاهوتية اتحدتا فيه اتحادا نهائيا وأصبحتا طبيعة واحدة وذلك مثل اتحاد الماء والخمر اللذين لا ينفصلان عن بعضهما بعضا إلا بعملية كيميائية .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي واللاهوتي أي "أم الله" كما توصف في الديانة النصرانية وفي أكبر فرقها أي الكاثوليكية وغيرها.

كان السريان نقلة المعارف اليونانية في العصور الوسطى، وهم أقدم سابقة من العرب في الترجمة من اليونانية بقرون. وبما أنهم نصارى لهم رهبان وكهنة ووثيقي الصلة باليونان، فقد انتقل مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة") إليهم من اليونانية مثلما انتقل إلى غيرهم من الأمم النصرانية ومنهم الفرنسيين (سنة 1330) والإنكليز (سنة 1432) كما ذكر المعجم الإنكليزي التأثيلي (النظر الحاشية رقم 7).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير