ما زال للصارخِ المعلي عقيرته= غوثٌ من الغوثِ تحتَ الحادثِ الجللِ
منْ كلِّ أبيضَ يجلو منهُ سائلهُ= خداً أسيلاً بهِ خذُّ منَ الأسلِ
وقفات طللية ..
تظهر في هذه القصيدة
-كسائر قصائده-
خصائص أبي تمام الشعرية والفكرية والإنسانية كذلك ..
فأما الشعرية فمن ما يظهر لنا من جودة النص والروعة الفنية في التصوير ..
فلم يعدم بيت من صورة أو مثل أو حكمة ..
ونأخذ من كلها بعضها -وفي بعضها الكل مجتمعٌ-:
مَنْ كَانَ حَلْيَ الأمَاني قَبْلَ ظَعْنَتِه= فَصِرْتُ مُذْ سَارَ ذَا أُمْنِيَّة ٍ عُطُلِ
صورة بديعة للقلوب محلاّة بالأمانيِّ ..
حتى إذا خاب رجاؤها عادت تلك القلوب المتزينة عُطلاً أي خالية من الحليّ ...
وفي قوله:
لئنْ غدا شاحباً تخدي القلاصُ بهِ =لقدْ تخلفتُ عنهُ شاحبَ الأملِ
فقوله شاحب الأمل صورة محسوسة لمعنى غائب عن العين ..
وما أكثر أخواتها في شعره القُذعْمُل
وأما هذه القطعة ..
فإنما هي كِلاتٌ مبهرجةٌ =تلوح فيها غوانٍ من معانيها
ملقى الرجاءِ ومُلقى الرحل في نفرٍ= الجودُ عندهمُ قولٌ بلا عملِ
انظر إلى الجمع التصويري بين المحسوس والمغيب ملقى الرجاء وملقى الرحل!
أضحوا بمستنِّ سيلِ الذمّ وارتفعتْ =أموَالُهمْ في هِضَاب المَطلِ والعِلَلِ
هذه صورة تذهب بأبصار الإعجاب وتجذب بأقطار الألباب ..
صوّر الفئة التي خُلِّفت بعد رحيل الممدوح من كذبها وبخلها
بقومٍ نزلوا و أضحوا بمستنِّ السيل والمستنِّ مكان جريان السيل واستنانه
- الاستنان سرعة الانصباب -وهذا لفظ لا يزال ينطق به هنا في قطر:) - ..
لكنه ليس سيل غيث ونشاص بل سيل ذمِّ وانتقاص ..
والمخزي أنهم وقعوا في مجرى النقص بينما حفظوا أموالهم منه
في هضاب من المواعيد والتعليلات الزائفة
ولله درّ أبي الطيب المتنبي حين يقول:
أنا الغنيُّ وأموالي المواعيدُ:)
مِنُ كُل أَظْمَى الثَّرَى والأرْضُ قَدْ نَهِلتْ ... ومُقْشَعِر الرُّبَا والشَّمْسُ في الحَملِ!
وهذا بيت زوج الشاعر فيه بين شعره وعلمه فولد هذا الإبداع!
أظمى الثرى والأرض قد نهلت أي أنّ إمساكهم عن بخل وليس عن فقر ..
ومقشعرّ الربا و الشمس في الحمل
إقشعرار ظهر الأرض لا يكون إلا عن جدب
قال أحد الجاهليين يرثي هشام بن المغيرة المخزومي:
وأصبح بطن مكّةَ مقشعرّاً .. كأنَّ الأرض ليس بها هشامُ!!
وهذا بيت عجيب في بابه!:)
فأبو تمام يستغرب بل يدعُّ الاستغراب إلى عقول الناس دعّاً ..
أنّ هؤلاء اللئام كالأرض الجدباء في فصل الربيع! وهذا من عجيب التشبيهات .. وبديعها ..
وأخرسِ الجودِ تلقى الدهرَ سائلهَ= كأنَّهُ واقفٌ منه على طللِ! الوقوف على الأطلال صفة يحبها العشاق ويمقتها المستجدون:) ..
هذا جانب من الفن الشعري البارق الراعد صادق الشيم والهطل ..
أما الجانب الآخر فهو فنّه الذي اشتهر به شاعرنا الحكيم
ألا وهو الفصل في ضرب الأمثال وتقليد النص بالحِكَم ..
فكم في الأبيات من جواهر ودرر تتحلى بها الألسن في حفلات الإستشهاد
كمقدمته:
مالي بعادية ِ الأيامِ من قبلِ =لَمْ يَثْنِ كَيْدَ النَّوَى كَيدِي ولاحِيَلي
لا شيءَ إلا أباتتُهُ على وجلٍ =ولم تبتْ قطُّ من شيءٍ على وجلِ
قَدْ قَلْقَلَ الدَّمْعَ دَهْرٌ مِنْ خَلائِقِه =طولُ الفراقِ ولا طولٌ من الأجلِ
وكقوله:
نأيُ الندى لا تنائي خلة ٍ وهوى ً .. والفجْعُ بالمجدِ غيرُ الفجع بالغزلِ!!
وهنا نقف ألف وقفةٍ في خضمّ أعداد الوقفات السالفة ..
فلله دره يوم فصَّل ما تشتّت في ألسن غيره ...
نعم الفجع ليس فجع الهوى بالجوى والعشق بالوجد والوصل بالهجر ...
-وإن كان كل هذا خطباً مبرِّحاً:) .. -
إنما الفجع حَقُّ الفجع بالمجد ولا غير المجد وهل كفقد المجد فقد؟!!
أما الجانب الشعريّ الأجلى والأوضح
والذي أراه إنسان عين القصيدة ومنبر محرابها ..
فهو في المقابلة البديعة بين الحج والجهاد في سبيل الله ...
إلى جانب مقابلة مناسك الحج بأعمال الممدوح ... وهذا من أبدع ما في النص من فنِّ وحبك شاعريِّ تماميِّ ..
للَّهِ وَخْدُ المَهَارِي أيَّ مُكْرُمَة ٍ= هَزَّت وأيَّ غَمامٍ قَلقَلَتْ خَضِلِ!
خَيْرُ الأخِلاَّءِ خَيرُ الأرْضِ هِمَّتُهُ= وأفضلُ الركبِ يقرو أفضلَ السبُلِ
زخرفة ذهنية وهندسة شاعرية ...
حُطَّتْ إلى عُمْدَة ِ الإِسلامِ أرْحُلُه= والشمسُ قدْ نفضتْ ورساً على الأصلِ
¥