ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده، ولا يبلغ قدره، كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء!! لا يظن هذا إلا من ضل سعيه ".
لن تجد في وصف القرآن أحسن من وصفه صلى الله عليه وسلم: حدث الترمذي أن ابن أبي طالب رضي الله عنه سمع الرسول وهو يقول: (أما إنها ستكون فتنة)، فقال له: فما المخرج منها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله تعالى، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله تعالى، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمتعه حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به)، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم).
أضف إلى هذا أنه كلما دار الزمان، وتقدمت العلوم، وتكشفت للإنسان أسرار الكون، استبان للناس من عظمة القرآن، واتضح لهم من وجوه إعجازه مالم يدر لهم ولا لآبائهم بخلد. فهذه أسرار طبية، وهذه أسرار فلكية، وتلك أسرار زراعية كشف عنها العلم الحديث، وإلى الأخيرة نلفت النظر لطرافتها وغضارتها:
قال الله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير).
لقد ساءلت نفسي وأنا أتدبر هذه الآية: لماذا كانت هذه الجنة بربوة؟ ولماذا عبر الله عن سقياها بإصابة الوابل؟ وهل لذلك من فائدة في كونها تؤتي أكلها ضعفين؟
قال الخليل: الربوة: أرض مرتفعة طيبة، وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه، وله رحمه الله:
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت عن المعاطش واستغنت بسقياها
فمال بالخوخ والرمان أسفلها واعتم بالنخل والزيتون أعلاها
وقال ابن عباس: الربوة: المكان المرتفع الذي لا يجري فيه الأنهار، لأن قوله: (أصابها وابل) يدل على أنها ليس فيها ماء جار. قال أبو حيان: وتفسير ابن عباس الربوة بالمكان المرتفع الذي لا يجري فيه ماء إنما يريد المذكورة هنا، لقوله: أصابها وابل، فدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس الربوة لا يجري فيها ماء، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ربوة ذات قرار ومعين)؟ وخصت بأن سقياه الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيراً، وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها ".
فهل من الحق أن القرآن عبر بإصابة الوابل عن السقيا لأن هذه الربوة التي أشار إليها لا تجري فيها الأنهار كما روي عن ابن عباس، أم جرياً على عادة بلاد العرب، وتمثيلاً لهم بما يحسونه ويدركونه كما يقول غيره من المفسرين؟.
عندي أن القرآن لم يرد ذلك، ولم يذهب إليه، وإنما ذهب إلى سر عظيم كشف عنه العلم الزراعي: فقد أثبت علماء النبات بعد تجارب أخطأها الحصر وما أخطأها الصواب، أن الحدائق التي تنشأ في الأراضي المرتفعة تغل أحسن من الحدائق المنشأة في الأراضي الواطئة، لأنها بعيدة عن الرشح الزائد، والماء الراكد، ولأن الهواء يتخلل بين طبقاتها في يسر وسهولة، فيساعد على التأكسد وصلاح المواد الغذائية، التي تمتصها الشعيرات الجذرية طيبة سائغة وتغذي بها الساق، والأوراق والزهور، فيزكو الزرع ويستغلظ ويستوي على سوقه يعجب الزراع، ويؤتي أكله ضعفين بإذن الله.
ولقد أثبت هؤلاء العلماء أيضاً أن أحسن طريقة للسقي، طريقة المطر الصناعي، لأنه يزيل ما على الأشجار من أوضار، فتتفتح مسام الأوراق، وتسهل عليها التفتح والتنفس، أو (التمثيل الكلوروفلي).
¥