وقيل أن المراد من ذلك الخيل , وهذا ما رجحه الإمام الفخر الرازي في تفسيره حيث قال: " واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل، وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس، واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز، وأيضاً فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل، وكذا قوله: {فالمغيرات صُبْحاً} لأنه بالخيل أسهل منه بغيره، وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا، وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية، لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة، ... " اهـ
والذي يعجب منه المرء عند النظر في هذه السورة بالذات أن المفسرين ابتعدوا كثيرا عن المعاني المباشرة للألفاظ فخصصوا وعمموا وخالفوا وغيروا وكل هذا في آيات قلائل , وسيلحظ القارئ هذا بنفسه , فعلى سبيل المثال يقول الفخر الرازي في هذه الآية " وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس، " , فإذا نحن نظرنا في المقاييس بحثا عن الضبح وجدنا التالي:
" الضاد والباء والحاء أصلانِ صحيحان: أحدهما صوتٌ، والآخَرُ تغيُّرُ لون من فعلِ نار. فالأَوَّل قولُهم: ضَبَحَ الثّعلبُ يَضْبَح ضَبْحاً. وصَوْتُهُ الضُّبَاح، وهو ضابح. قال: دعوتُ ربِّي وهو لا يُخَيِّبُ بأنَّ فيها ضابحاً ثعَيلِب , فأمَّا قولُه تعالى: {وَالعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات 1]. فيقال هو صوتُ أنفاسها، وهذا أقيَسُ، .... وأمَّا الأصل الثاني فالضَّبْح: إحراقُ أعالي العُود بالنار. والضِّبْح: الرَّماد. والحجارة المضبوحة هي قَدَّاحة النّار، التي كأنها محترقة. قال: والمرْوَ ذَا القَدَّاحِ مضبوحَ الفِلَق , ويقال الانضباح تغيُّرُ اللون إلى السواد. " اهـ
فإذا كان هذا هو المعنى اللغوي العام لهاتين الكلمتين فما هو المراد من هذه الآيات؟
الملاحظ في هذه الآية أن الله عزوجل استعمل وصفا عاما " العاديات " ولكنه خصصه بمخصصات عدة , لا بد لمن يستخرج معنى العاديات أن يثبت تطابق هذه الأوصاف مع المدلول تطابقا كليا , (وهذا ما لا نجده بأي حال في أقوال المفسرين) , فإذا نحن طبقنا منهج المفسرين في التجزئة والتقطيع فيمكننا القول نجد أن الوصف من أول السورة يدور في فلك الاعتداء (لذا فلا يتناسب أبدا هنا القول بأن المراد من العاديات هو الجمال في حال الحج) فمن الممكن أن يتناسب هذا الوصف ينطبق على معداتنا الحربية الحديثة أكثر منه انطباقا على الخيل والجمال , فمعداتنا هي التي تضبح (تحدث أصواتا وتغير لون من فعل نار فتخرج دخانا) وهو توري أقداحا وتغير صبحا وتثير النقع وتتوسط الجمع! , وسيرى القارئ الكريم من خلال تعرضنا للسورة الكريمة ومن خلال تحليلنا لمفرداتها كيف أن هذا الوصف ينطبق على المعدات الحربية الحديثة. ولكنا لا نقول بهذا القول , لأنه يؤدي إلى تجزئة الآيات وتقطيعها وعدم وجود أي معنى إجمالي متصل من أول السورة إلى آخرها. (ولا يعجب القارئ من هذا فيقول: وما علاقة أسلحة الحرب التي تجلب الدمار بنكران النعم وقطع الشكر؟ نقول: قل هذا لمن قال أن الله أقسم بالخيل أو الجمال التي تعدو فتهجم على المخالفين في حال الصبح لأن هذا هو الوقت هو وقت غفلة وذهول , فهم قطعوا السورة وعضوه ولم يروا في ذلك بأسا , أما نحن فعلى الرغم من أن التطابق بين قولنا في الآلات الحربية أكثر من تطابق الخيل والإبل مع الآيات فإنا لا نقول به لأنه ينسف الوحدة الموضوعية والصورة العامة للسورة!
إذا فما هو المراد من العاديات؟
العاديات المرادة في هذه الآيات من خلال التوصيف الرحماني لها هي السحب الثقال المحملة الممطرة , لأننا إذا طبقنا باقي الأوصاف على أي معنى آخر فلن نجد تطابقا كليا , (من الممكن القبول أنها الرياح , ولكن التطابق لا يكون تاما) أما مع السحب فستجد تطابقا تاما كاشفا للألغاز التي أوقعنا فيها المفسرون عند قولهم بالأقوال الأخرى , وابدأ معي عزيزي القارئ في تتبع هذه الأوصاف:
¥