" ..... وقال الفراء: الساهرة وجه الأَرض، كأَنها سميت بهذا الاسم لأَن فيها الحيوان نومهم وسهرهم، وقال ابن عباس: الساهرة الأَرض؛ وأَنشد: وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ، وما فاهوا به لَهُمُ مُقِيمُ وساهُورُ العين: أَصلها ومَنْبَعُ مائها، يعني عين الماء؛ قال أَبو النجم: لاقَتْ تَمِيمُ المَوْتَ في ساهُورِها، بين الصَّفَا والعَيْسِ من سَدِيرها ويقال لعين الماء ساهرة إِذا كانت جارية.
وفي الحديث: خير المال عَيْنٌ ساهِرَةٌ لِعَيْنٍ نائمةٍ؛ أَي عين ماء تجري ليلاً ونهاراً وصاحبها نائم، فجعل دوام جريها سَهَراً لها.
ويقال للناقة: إِنها لَساهِرَةُ العِرْقِ، وهو طُولُ حَفْلِها وكثرةُ لبنها ..... " اهـ
فنخرج من هذا الجماع للاستعملات المختلفة للكلمات أن السادة اللغويون لم يحالفهم الصواب والدقة عند تحديد معنى السهر , فقالوا أنه بمعنى الأرق
مع أنه من الأولى ومن الأدق أن يقال أن السهر هو بمعنى الدوام والسفلية والمطاوعة! قد يعجب القارئ ويسأل: من أين أتينا بهذا المعنى؟ فنقول: استخرجنا هذا المعنى من خلال النظر في المعنى الجامع للمدلولات المشتركة تحتها وكذلك من خلال تقليبات الكلمة المحتملة , فإذا نحن قلبنا كلمة " سهر " وجدناها " رهس , وهي كما جاءت في المقاييس:
" الراء والهاء والسين أصلان: أحدهما الامتلاء والكثرة، والآخَر الوطء. فالأول قولهم: ارتهَسَ الوادي: امتلأ. وارتهَسَ الجرادُ: ركِب بعضُه بعضاً.والأصل الآخر: الرَّهْس: الوطء. " اهـ
إذا فالرهس يدل على الوطء والوطء الشديد المكثف , وعكس الرهس مبنى ومعنى هو السهر! فالسهر هو الذي يوطىء! فإذا نحن قلبنا الكلمة من النصف أصبحت " هرس " وهي معروفة المعنى , وهي كما جاءت في المقاييس: " الهاء والراء والسين: أصلٌ صحيح يدلُّ على دَقٍّ وهَزْمٍ في الشَّيء. وهَرَسْت الشّيءَ: دقَقْتُه. " اهـ
فالهرس يدل على الدق والكسر في الشيء إلى قطع صغيرة , فنخرج من تجميع هذه المعاني أن المراد من الساهرة فعلا هو الأرض اللينة (الطين) أو الأرض عامة , وبهذا يكون ما قاله المفسرون في هذا المعنى صحيح على الرغم من حيرتهم الشديدة في العلاقة بين الساهرة والأرض وظنهم ألا علاقة بينهما! وأن الأمر من باب التوقيف , لذلك نجد بعضهم يجعلها أرضا مخصوصة أو أرض يوم القيامة إلخ تلك الأقوال التي لم تعرف وتحدد العلاقة بين السهر والأرض.
إذا فعندما تزجر الزجرة الواحدة يعاد تكوين الناس مرة أخرى بالساهرة وهي كما رأينا بمعنى الأرض وبمعنى عين الماء السائلة ,فيخلق الناس من التراب ومن الماء , أي أن الناس يعاد تشكيلهم وإخراجهم مرة أخرى من الأرض كما خرجوا أول مرة , فإذا مروا بالمراحل المألوفة المعروفة واكتمل خلقهم يخرجون من الأرض مكتملين ناضجين كما خرجوا أول مرة عند خلقهم على كوكب الأرض " يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 44] " فكما حدث في المرة الأولى يحدث في المرة الآخرة مصداقا للقانون الرباني الرحماني " ... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] "
أي كل ما هنالك صيحة واحدة فيكوّن الناس من الأرض مرة أخرى ولا يحتاج الأمر أكثر من ذلك!
ثم انتقل الله عزوجل نقلة نوعية كبيرة فقال " هل أتاك حديث موسى " فما هو الرابط بين هذه الآية وبين الآيات السابقات؟
يحمد للإمام الفخر الرازي أنه حاول أن يوفق بين الآية والآيات السابقات فقال: " اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين: الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم: {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة} [النازعات: 12] وكان ذلك يشق على محمد صلى الله عليه وسلم فذكر قصة موسى عليه السلام، وبين أنه تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ليكون ذلك كالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم الثاني: أن فرعون كان أقوى من كفار قريش وأكثر جمعاً وأشد شوكة، فلما تمرد على موسى أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك إن أصروا أخذهم الله وجعلهم نكالاً." اهـ
¥