إذا فالله تعالى يقدم للإنسان صورة بديعة متمثلة في حركة الرياح المرسلة من عند الله ودورها في الإعمار وكذلك في الهدم والهلاك ثم يستكمل الصورة بدور الملائكة في النشر وإحياء ما مات وتفريق كل أوامر الكون وتنظيمها من أجل الإنسان ومصلحته ثم يصل الأمر إلى ذروته بإلقاء الذكر للإنسان من أجل هدايته ثم يدقم له علة هذه الصورة كذلك حتى لا يظل عقله مضطربا حائرا في تفسيرها أو تبريرها. فمن أجل ماذا يقدم الله تعالى هذا كله؟
يقدم الله تعالى هذا كله ليقول للبشر: " إنما توعدون لواقع " فهذه الجملة هي جواب المقسمات الخمس , فما وعد الله به البشر في الذكر " فالملقيات ذكرا " واقع واقع , ولكن ما هو الموعود؟
الناظر في الآية يجد أن المذكور عام " ما توعدون " فيصدق على كل وعد أتى في الذكر , ولكن الناظر في السورة يجد أنها من أولها إلى آخرها تحتم أن يكون المراد من الوعد هو البعث والفصل بين المنشرين إلى النار أو إلى الجنة! فالسورة كلها رد على من ينكر البعث أو أن يكون هناك جنة أو نار! لذلك توعد الله هؤلاء المنكرين لهذه المسألة بقوله " ويل يومئذ للمكذبين "!
وبعد هذه الآية يبدأ التداخل البديع لهذه السورة والذي أرهق كثيرا من المفسرين في استخراج وحدتها , فبدلا من أن يبدأ القرآن في ذكر بعض الأدلة على وقوع هذه اليوم بدأ في ذكر بعض النصائح و الإرشادات والتعريفات للكافرين , و بدأ هنا بتعريفهم بوقائع من التي تقع في اليوم الآخر وباقي النصائح المتعلقة بالدنيا ستأتي في آخر السورة , فيبدأ هنا بذكر أحداث في يوم الفصل من باب التعريف بها ضمنا ومن أجل إرشاد المكذبين إلى مصيرهم في يوم الفصل , فهذه الأربعة ليست علامات ليوم القيامة وإنما هي أحداث تكون فيها , تُذكر من أجل أمر معين سنوضحه , فقال لهم عندما يحدث هذا افعلوا ما سنأمركم به: " فإذا النجوم طمست " والطمس معلوم وهو كما جاء في المقاييس:
" الطاء والميم والسين أصلٌ يدلُّ على محوِ الشيء ومسحِهِ. يقال طَمَسْتُ الخَطَّ، وطَمست الأثرَ. " اهـ وكما جاء في دعاء سيدنا موسى " ربنا اطمس على أموالهم " فتطمس النجوم ويذهب نورها فلا ترى , " وكذلك " وإذا السماء فرجت " والفرجة معروفة وهيأصل يدل على تفتح في الشيء , ومن ذلك قول الله تعالى " إذا السماء انشقت " , " وفتحت السماء فكانت أبوابا " وكذلك " وإذا الجبال نسفت "والنسف معروف للقارئ المعاصر , وقيل أن المراد من النسف هو القلع من الأصول , يقال: نسف البناء إذا قلعه من أصوله , ولكن الصحيح هو ما يتبادر إلى ذهن القارئ عند سماعه للنسف ويؤيد هذا ما جاء في الكتاب العزيز في وصف أحوال الجبال يوم القيامة فيقول الله تعالى فيها: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5] {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14] {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً} [طه: 105] كما قال في حق عجل قوم موسى: " لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " وكذلك " وإذا الرسل أقتت " الرسل هم هنا لا محالة رسل البشر لأن كلمة الرسل لم تأت في القرآن إلا مع الرسل من البشر مثل رسولنا الكريم , فالآية تقول " وإذا الرسل أقتت " أي حدد لهم الوقت الذي يأتون فيه للشهادة على أقوامهم ويصدق هذا قوله تعالى " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [يونس: 47] " فلقد أقت للرسل ميعاد لكي يأتوا فيه ليشهدوا على أقوامهم وهذا الميعاد هو يوم الفصل بين الناس , " ليوم الفصل " ومن هذا نخرج بأن يوم الفصل ليس المراد منه اليوم الآخر بأكمله أو هو اسم من أسمائه وإنما هو اسم لموقف معين فيها , كما أن باقي الأسماء توصيف معين لموقف فيها , فيوم الحشر غير يوم القيامة! فيوم الحشر هو يوم الحشر ويوم القيامة هو يوم القيامة! وهكذا. ثم عظم الله تعالى هذا اليوم فقال " وما أدراك ما يوم الفصل " ولم يذكر الله تعالى هذه الآية فقط ليشير إلى التفخيم وإنما سيوضحها لنا الله تعالى في آيات لاحقات. والعجيب أن السادة المفسرون لعدم ربطهم الآيات ببعضها رأينا لهم أفهاما عجيبة في هذه الآية , فنجد الإمام الفخر الرازي يقول في تفسير آية " وإذا الرسل أقتت ":
¥