قد تكون هذه النقطة غامضة بعض الشيء لكوننا لم نذكر بعد ما هي الآيات المحكمات التي هن أم الكتاب والأخر المتشابهات المحكمات اللاتي لسن أم الكتاب؟ فنقول وبالله التوفيق: لما كان الواقع من أهم عناصر تأويل القرآن فإنا قد وجدنا أن الجزء الذي تعرض للطعن وللهمز وللمز من غير المسلمين هو الجزء الطبيعي التوصيفي , فكتاب الله عزوجل احتوى تشريعات وهذه تختلف من دستور إلى آخر ولكلٍ وجهة نظر مختلفة فيها فلا يمكن الطعن فيها كذلك , واحتوى كذلك كتاب الله عزوجل إخبار وتوصيف للطبيعة وللكون وهذا الجزء هو الذي تعرض للطعن من المخالفين – لا يعني هذا أن الصنفين الأولين لم يتعرضا للطعن ولكن كما قلنا هي أمور عند كثير من الناس نسبية فما تراه صالحا قد أراه أنا غير مناسب - , حيث قال المخالفون أن هذا التوصيف غير صحيح لأنه يخبر عن أشياء غير منطقية أو مخالفة للطبيعة مثل القول بأن للجمادات إرادة كما جاء في قوله تعالى " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " أو أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحار العذبة " الأنهار" , كما احتوى غيبيات من بعث ونشر وما شابه وهذه نقطة الخلاف الرئيس مع الملاحدة , لذا فإنا نقول أن المراد من الآيات المتشابهات هي الآيات المتعلقة بالطبيعة والكون والغيبيات وأن المحكمات التي هن أم الكتاب هي الآيات المتعلقة بالأحكام , وهذا القول نابع كذلك من كتاب الله عزوجل , فهو يقول: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " , فالتكذيب بكتاب الله نابع من أن المكذب كذب لنقص علمه وقصور عقله لأنه يريد أن يرى كل شيء في الغيبيات – سواء المرحلي منها أو التام – رأي العين وهذا ما لن يحدث فالإيمان بالغيب هو أول شرط في الإيمان , لذا فعندما نرى أن المحكمات أم الكتاب هن آيات الأحكام فهذا نابع من الواقع , فلا أحد يكذب بالأحكام ناهيك عن أن النبي العدنان قد أولها وانتهى تأويلها والله يقول أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله , وآيات الأحكام أتى تأويلها على يد النبي المحمود فلا مجال للتكذيب فيها , أما آيات الطبيعة والكون فلا نزال نجد من يشكك فيها ومن يحاول أن يسقط أحداث القيامة أو الغيبيات على الواقع وهذا ما لن يكون لأن هذا قياس للغائب على الشاهد وهو مرفوض عقلا , لذا فإن المسلك الحميد في التعامل معها هو نفس مسلك الراسخين أن نؤمن أنها من عند الله فنأخذها كما هي وستمر الأيام وسيأتي اليوم الذي نكتشف فيه أن للجمادات إرادة كما قال المولى القدير: " جدارا يريد أن ينقض " وسنجد أن في كل شيء حياة وعقلا – الله أعلم به – , كما قال المولى " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " والأيام والسنون بيننا. فكما تعجل المفسرون وقالوا أنه ليس المراد من قوله تعالى " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ... يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " فقالوا أنه ليس المراد من " منهما" في الآية البحر المالح والبحر العذب " الأنهار" ولكن المراد من ذلك البحار المالحة وإنما قال " منهما " على سبيل التغليب لأن البحار المالحة هي الأكبر , وكما طعن الملاحدة وقالوا أن القرآن يحتوى الأخطاء العلمية وذكروا الآية نموذجا , وكما مرت السنون واكتشف العلم الحديث أن هناك بعض الأنهار في روسيا واليابان بعض دول أمريكا الجنوبية وأروبا يخرج منها اللؤلؤ والمرجان , فكذلك ستمر الأيام وسيكتشف العالم أن للجمادات إرادة وأن ما قاله الله تعالى في كتابه صواب بل هو عين الصواب. ومن هذه النقطة ننتقل إلى الحديث عن التأويل فما ذكرناه هو التمهيد للوصول إلى معنى التأويل , لنوضح ما هو المقصود من التأويل وكيف أن المفسرين والأصوليين استعملوه بطريقة عجيبة وبفهم أعجب , والله وحده أعلم كيف حادوا عن المدلول القرآني إلى معان اصطلاحية!
ولأننا لا نريد أن ندخل إلى التعريفات المختلفة للتأويل نذكر التعريف المشتهر للتأويل وهو قولهم: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله لقرينة تحتم ذلك.
وعلى الرغم من أن التعريف يحمل تناقضا داخليا رهيبا ينسفه من أساسه ولكن لما كان هذا التناقض الداخلي مبني على النظرة الساذجة إلى اللغة والتقسيم البدائي إلى حقيقة ومجاز مع غياب لحدود الحقيقة وبداية المجاز عند كل القائلين به , فإنا سنغض الطرف عن هذا التناقض ونسأل: هل هذا هو المعنى اللغوي للتأويل وكيف استعمله القرآن الكريم؟
إذا نحن نظرنا في اللفظة وجدنا أنها من الألفاظ التي تأتي بالمعنى وضده كما في شرى والتي تأتي بمعنى اشترى وباع وغيرها , فنجد أنها – كما جاء في مقاييس اللغة -:
" الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه. أما الأوَّل فالأوّل، وهو مبتدأُ الشيء، والمؤنَّثة الأولى، مثل أفعل وفُعْلى ......... والأصل الثّاني قال الخليل: الأَيِّل الذكر من الوُعول، والجمع أيائِل. وإنّما سمّي أَيِّلاً لأنّه يَؤُول إلى الجبل يتحصَّن .... وقولهم آل اللّبنُ أي خَثُر من هذا الباب، وذلك لأنه لا يخثر [إلاّ] آخِر أمْرِه. ...... وآلَ يَؤُول أَي رجع. قال يعقوب: يقال "أَوَّلَ الحُكْمَ إلى أَهْلِه" أي أرجَعه ورَدّه إليهم. ...... وآلُ الرَّجُلِ أَهلُ بيتِه من هذا أَيضاً* لأنه إليه مآلُهم وإليهم مآلُه ....... ومن هذا الباب تأويل الكلام، وهو عاقبتُهُ وما يؤُولُ إليه، وذلك قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ تَأْوِيلَهُ [الأعراف 53]. يقول: ما يَؤُول إليه في وقت بعثهم ونشورهم. "
يتبع ..............
¥