تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما عليك ألا يزَّكى

ـ[إبراهيم الحميضي]ــــــــ[03 Jan 2009, 07:19 م]ـ

وما عليك ألا يزَّكى ما أعظم القرآن، وما أجمل آياته وأعذب ألفاظه وأبلغ عظاته! تأملت في هذه الآية الكريمة فلَكَأنني أسمعها لأول مرة، تأملتها ولسان حال بعض إخواننا الدعاة يقول: لا بد أن يتزكى!

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولاً بدعوة رجل من كبراء قريش، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى - رضي الله عنه - فجعل يقول: يا رسول الله! علِّمني ممّا علَّمك الله! فأعرض عنه - صلى الله عليه وسلم - وأقبل على ذلك السيد الكافر رجاءَ إسلامه، فنزل العتاب الربَّانيّ الشديد من فوق سبع سماوات: {عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 1 - 11].

سبحان الله! ماذا فعل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد رام مصلحةً كبيرةً للإسلام والمسلمين وقدَّمها على مصلحة صغرى، لقد حرص على هداية ذلك العظيم من عظماء قريش؛ لأن في هدايته نفعاً عظيماً للمسلمين، وتقوية لهم، ودفعاً للأذى عنهم في زمن اشتدت فيه كربتهم وضاقت حيلتهم.

وأمّا هذا الرجل الأعمى الضعيف فلا يضيره ولا يضر الإسلام قليلاً حتى يتفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعليمه؛ فهو رجل مسلم مؤمن، ولا ضرر في الإعراض عنه لذلك الهدف النبيل ... هكذا يبدو للناظر، ولكن ليس الأمر كذلك في ميزان السماء.

إنّ الحرص على هداية الناس ولا سيّما الأكابر ومَنْ يُرجى بإسلامه أو هدايته نفع كبير للإسلام والمسلمين، من أعظم واجبات الدين ومهماته. وتقديمُ المصالح الكبرى العامة على المصالح الصغرى الخاصة أمرٌ جاءت الشريعة بتقريره وتأكيده، ولكن يُشترط ألا يترتب على ذلك الإخلالُ بفريضة من فرائض الدين، أو انتهاك شيء من حدوده، فإن الشريعة كلها مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد.

ما أحوجنا إلى تدبُّر هذه الآيات الكريمة في مقدمة سورة (عبس) في هذا الوقت الذي انتشر فيه ما يسمّى بفقه التيسير؛ الذي يتضمن في كثير من الأحيان تقديمَ المصلحة على النصّ، والبحثَ عن الرُّخَص والأقوال الضعيفة التي تتوافق مع ظروف الناس اليومَ وترغِّبهم في الدين (زعموا!)، ونحن نحسن الظنّ بكثير من أصحاب هذه الدعاوى، ولكنّ الغاية لا تبرر الوسيلة.

لقد كان لهذا المنهج الفقهي آثار سلبية تمثلت في مظاهر منها: الاستخفاف بكثير من المحرمات، والتقصير في الواجبات، وعدم إنكار بعض المنكرات، ولا سيّما إذا وافقت هوى في النفس وضعفاً في الدين والورع، وأخطر من ذلك أنها ربما مهّدت لتقبّل الفكر الإرجائي الذي انبعث من جديد.

وهنا أؤكد على بعض المعالم المهمة التي لا تخفى على القارئ الكريم، وهي:

1 - أن هذه الشريعة المحمّدية مبنية على اليُسر والسماحة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87]، فليست بحاجة ألبتّة إلى من يزيدها يسراً وسهولةً.

2 - ينبغي أن يُعرَض دينُ الله كما نُزِّل من عند الله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 92]، مع مراعاة التدرّج في الدعوة.

3 - كل مصلحة تعارض نصاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهي مصلحة ملغاة لا اعتبار لها، وكل مصلحة متحققة لا تُترَك لأجل مصلحة متوهَّمة، والشرع أدرى بمصالح العباد من العقل.

4 - أنّ هذه الشرعية السَّمحة صالحة لكل زمان ومكان، لا حرجَ فيها ولا عَنَتَ، يستطيع المسلمون في هذا الزمن الالتزام بحدودها وإظهار شعائرها في أغلب البلدان.

5 - من قواعد الشريعة المُجمَع عليها أن الضرورات تبيح المحظورات؛ فإذا اضطر الإنسان لترك واجب أو فعل محرم جاز له ذلك، ولكنَّ الضرورة تُقدَّر بقدْرِها وزمانها ومكانها، ولا يترخَّص بها جميع الناس.

6 - لم نرَ لهذا التساهل والتَّرخُّص أثراً واضحاً في دعوة غير المسلمين، أو توبة بعض المذنبين، بل ثبت أن الكفّار وأهل الكبائر من المسلمين يزدرون من يداهن في دينه.

هذه وقفة سريعة حول هذه الآية الكريمة.

وأخيراً أوصي من تصدَّر للفتوى من أهل العلم أن يتقي الله - تعالى - في فتواه، وأن يعلم أنه موقِّع عنه - جلّ في علاه - قائم بين يديه، وليحذر كل الحذر أن يجرِّئ الناس على حدود الله.

نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير