ثم حاول الباحث بعد ذلك أن يرسم ملامح عامة لنظرية التخلص القرآني فنجده قد للتخلّص التعريف الجامع المانع الآتي: "فن الانتقال من غرض إلى آخر"، ثم أشار أنه لا بُدّ لنا من أن نلم بأبعاد النظام السياقي الذي يشتمل عليه. ولكي نفهم السياق بوصفه امتداداً خطياً ناظِماً للكلام ومنتظماً به؛ لا بُدّ لنا من التعرف إلى مستويات الربط السياقي وهي على النحو الآتي:
1 - العطف، 2 - التجاوز البسيط، 3 - المجاوزة.
وجدير بالذكر القول بأن للربط صورتين: الأولى واضحة، والثانية ضمنية، وجُلّ الآيات القرآنية تندرج ضمن هاتين الصورتين. وقد بين الدكتور منير أن بنية التخلّص تزخر بتنوعات وتلوينات شتى، وهي بنية ثرية الأبعاد، ومتعددة الوجوه والتبديات، توظف داخلها حزمة كثيفة من الوسائل البلاغية الدالة، فخط المخالفة السياقي بحسب ثلاثية الدكتور منير قد تعمل فيها المجاوزة بدرجة عالية على تعميق الفجوة السياقية، وثمة درجة وسطى يعمل فهيا التجاوز البسيط على المعادلة بين فقدان الصلة والعثور عليها، وثمة درجة دنيا يتوق فيها عطف وجدان السياق ذات الانتماءات القريبة علىبعضه البعض إلى تضييق الفجوة أو المسافة تضييقاً كبيراً. وقد تتداخل هذه الدرجات كلها في مساحة سردية محدودة لا تتجاوز أربع آيات أو خمساً أحياناً وربما عبر مساحة السورة بكاملها أحياناً أخرى.
والتخلّص باختصار هو الصورة القديمة الجديدة للوجود في حركته وانتشاره وتحولاته، فكل شيء يختلف أو يكسر اتساقه الأصلي دون أن يفقد الصلة بين حلقاته.
وقد عالج الدكتور منير في الفصل الرابع من كتابه بعض القضايا الجدلية المتعلقة بـ"العالم والإنسان، وذلك وفق النص القرآني". وقبل ذلك تصوره للعالم والإنسان، فقد أشار الدكتور منير إلى تصور جهود الفلاسفة في إدراك ماهية العالم والعوالم من حوله، فيما كان النص القرآني قد أعطى ما يحصل في كون الله الشاسع من موجودات تصوُّرَه الواضح والجليّ؛ لذلك فليس عبثاً أن نجد لفظ "العالم" لا يرد في أي سياق من سياقاته، إنما نجد لفظاً آخر هو "العالمين" بالجمع.
ولما كان الإنسان جملة في نص العالم بل أهم جملة فيها –كما يرى مؤلف الكتاب- فقد تناول جدليته بالنقاش والنقد والتحليل وفق النص القرآني، وقد أشار المؤلف إلى أنه يمكن لنا أن نتصور العالم دون إنسان، فيما لا نستطيع أن نتصور الإنسان دون العالم، فالإنسان هو "الجملة المفتاح" في النص الذي ندعوه العالم.
فالله تعالى حين انشأ المادة وخلق الحياة اختار للإنسان أن يجاهد جهاداً متواصلاً من اجل الإياب، ولما كان العقل يثير أسئلته دوماً، ويعرض شكوه لأنه مقيد بالمفارقة فإن نقد النص القرآني للإنسان حُمِل على هذا الوجه، وكأن النص القرآن يسأل: لِمَ كل هذا اليقين باللامتيقن منه؟
فقد عدّ النص القرآني إحجام الإنسان من الاستجابة لكلية وجوده والتصاقه بوجوده الجزئي نوعاً من الخصومة وضرباً من ضروب الخسران حين نقرأ: ?خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ? (النحل:4).
واستكمالاً لرسم ملامح نظرية النص القرآني فقد تطرق الدكتور منير إلى ظاهرة شاع استعمالها في القرآن الكريم، وهي مفتتحات النص وتجارب مواقع دلالاتها، حين بين بأمثلة تطبيقية قرآنية أهمية مفتتحات الكلام بوصفها انحرافاً عن صمت أو فراغ، حيث بين أن هذه البدايات تعد تأسيساُ لمتوالية من المعاني التي تعلن في اكتمالها الأخير ولادة نظام ما، خاصة حين تناول مفتتح التجلي بعد الخفاء، حيث أطلق ابن قيم الجوزية على السور القرآنية المفتتحة بالحروف المفردة والمركبة نصياً بـ"الابتداء الخفي"، وسمّى ما عدا ذلك "الابتداء الجلي". وهكذا فمن المواضيع المعالجة دلالياً في القرآن الكريم أساليب النداء والقسم بوصفها مفتتحات نصيّة.
ومن الأشياء الواردة في القرآن الكريم بصورة لافتة للنظر مسألة المجاز، الأمر الذي دفع باحثنا إلى الغوص في مضامينه ومعانيه في النصوص القرآنية، فهو ينطوي على شيء أكبر من إثارة الخيال أو خلق ارتباطات جديدة، فهو يحمل في إحيائه رمزية الحقيقة وينطق باسمها.
¥