فالواجب -إذاً- للحاكم إذا عرضت له مسألة: النظر في الكتاب والسنة -معاً- دون أي تفريق بينهما.
إذا عرفت ما تقدّم، تعلم خطأ من قال من أهل العلم بصحة معنى الحديث على إطلاقه! بل الصواب تقسيم معنى الحديث إلى قسمين:
الأول: الحث على الاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، وعليه أدلة كثيرة.
الثاني: جعل السنّ في المرتبة الثانية بعد القرآن، وأنه لا يجوز النظر فيها إلا بعد النظر في القرآن!! وهذا ما تقدك بيان فساده.
وهذا ما أشار إليه الحافظ الذهبي في ((تلخيص العلل)) (ص269 - 270) بقوله: "هذا الحديث معناه صحيح؛ فإن الحاكم مضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر)).
ومذاهب الأئمة الأربعة: منع الحاكم في أحكامه من تقليد إمام بعينه في كل ما قاله، فعلى الحاكم أن يقضي بما أجمع عليه العلماء، فإن اختلفوا: فعليه أن ينظر في أقوالهم؛ فما وافق قوله الكتاب والسنّة () في تلك القضية [قبله]، وأعرض عن قول من خالف النص أو القياس، فإن رأى النص محاذياً بين الأئمة استخار الله تعالى، وتوخى أقرب القولين إلى الحق، وقضى به بعد أن يشاور الفقهاء، وإن دُفِع عنه الحكم في تلك الكائنة ()؛ فهو أسلم لدينه، أما أن يحكم بكل ما قاله إمامه من غير أن يعلم حججه ولا حُجج من خالفه! فهذا مقلّد صِرف! نسأل الله العافية".
وجه آخر من البيان
قال الإمام ابن حزم في ((النبذ)) (ص59): " ... ومن الباطل المقطوع به أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وهو يسمع وحي الله إليه: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} و {اليوم أكملت لكم دينكم}.
فما كمل بشهادة الله تعالى فمن الباطل أن لا يوجد فيه حكم نازلة من النوازل، فبطل الرأي في الدين مطلقاً. ولو صح لما خلا ذلك من: أن يكون خاصة لمعاذ، لأمرٍ علمه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعلمكم بالحلال والحرام معاذ)) () فسوغ إليه شرع ذلك. أو يكون عاماً لمعاذ وغير معاذ؛
فإن كان خاصاً لمعاذ: فلا يحل الأخذ برأي أحد غير معاذ، وهذا ما لا يقوله أحد في الأرض.
وإن كان عاماً لمعاذ وغير معاذ: فما رأي أحد من الناس أولى من رأي غيره فبطل الدين وصار هملاً، وكان لكل أحد أن يشرع برأيه ما شاء وهذا كفر مجرّد!!
وأيضاً؛ فإنه لا يخلو الرأي من أن يكون محتاجاً إليه فيما جاء فيه النص؛ وهذا ما لا يقوله أحدٌ؛ لأنه لو كان ذلك لكان يجب بالرأي تحريم الحلال، وتحليل الحرام، وإيجاب ما لا يجب، وإسقاط ما وجب، وهذا كفر مجرّد!
وإن كان إنما يحتاج إليه فيما لا نصّ فيه، فهذا باطل من وجهين:
أحدهما: قول الله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقوله سبحانه وتعالى: {تبياناً لكل شيء} وقوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} وقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}.
فإذاً قد صحّ يقيناً بخبر الله تعالى الذي لا يُكذِّبه مؤمن أنه لم يفرِّط في الكتاب شيئاً، وأنه قد بيّن فيه كل شيء، وأن الدين قد كمل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن للناس ما نزِّل إليهم.
فقد بطل يقيناً -بلا شك- أن يكون شيء من الدين لا نصّ فيه، ولا حكم من الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم عنه.
والثاني: أنه حتى لو وجدنا هذا -وقد أعاذ الله تعالى ومنع من أن يوجد- لكان مَن شرع في هذا شيئاً قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وهذا حرام قد منع القرآن منه.
فبطل الرأي، والحمد لله رب العالمين".
ـ[مجاهدالشهري]ــــــــ[27 Jan 2009, 10:58 م]ـ
جزى الله الشيخين أبو مجاهد ومالك حسين خيراً على ما قدماه ومعذرة للتأخر وعدم الإضافة والمتابعة للإنشغال بالإختبارات الجامعية كان الله في العون
ثالثاً/ ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في معرض ذكره للأقوال في حكم التأمين عقب الفاتحة قول أصحاب مالك بأنه لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم واستدل بذلك بأدلة ذكرها
عقب القاضي محمد كنعان فقال: وهذه رواية عن الإمام مالك، ولكن الرواية المشهورة عنه: أن الإمام لا يؤمن في الصلاة الجهرية، ويؤمن في السرية منها.
ـ[سلمان الخوير]ــــــــ[29 Jan 2009, 11:25 م]ـ
بارك الله فيك أخي / عبد الله ونفع الله بهذه المشاركات الطيبة ...
وبارك الله في المشايخ أبا مجاهد وبقية الإخوة على مداخلاتهم المستنيرة ..
متابع لموضوعكم الرائع والمهم ....
أعانكم الله وسدد خطاكم
ـ[مجاهدالشهري]ــــــــ[16 Feb 2009, 10:41 ص]ـ
حياك الله أخي سلمان وحقيقةً وليس تواضعاً فالموضوع ليس لي وهل أنا إلا ناقل؟
أشكر لك دعواتك الطيبة سمع الله منكم
رابعاً/ ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كلاماً للزمخشري حول مسألة الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسيره للآية الأولى من سورة البقرة.
عقب القاضي محمد على ما نقله ابن كثير - رحمه الله - فقال/
ما نقله ابن كثير عن الزمخشري هو على ذمة محققي نصه مجتزأ غير وافٍ بالمطلوب، ونص ما قاله الزمخشري في أول تفسير سورة البقرة ما يلي:
((فإن قلتَ: فهلا عُدِّدَتْ بأجمعها في أول القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟
قلتُ: لأن إعادة التنبيه على أن المتحدَّى به مؤلف منها لا غير، وتجديدُه في غير موضع واحد أوصلُ إلى الغرض، وأقرُّ له في الأسماع والقلوب من أن يُفْرَدَ ذكرُه مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن، فمطلوب به تمكين المكرَّر في النفوس وتقريره.
فإن قلتَ: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفتْ أعداد حروفها، فوردت:
ص وَ ق وَ ن على حرف،
وطه وَ طس وَ يس على حرفين،
وَ الم وَ الر وَ وطسم على ثلاثة أحرف،
وَ المص وَ المر على أربعة أحرف،
وكهيعص وَ حم عسق على خمسة أحرف؟
قلتُ: هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوعة، وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك)) اهـ.
¥