وَصَفَ ابنُ عاشور (ت:1393) علم التفسير بأنه: (تفسير ألفاظٍ, أو استنباطُ معانٍ) (11) , وقال: (موضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه, وما يُستَنبَطُ منه) (12) , فالاستنباط بهذه المثابة قسيمٌ لبيان المعاني؛ وذلك بالنظر إلى جمهرة معلومات كتب التفسير التي يذكرها المفسر, وإلا فإن الاستنباط من علوم الآية التي تأتي بعد تمام التفسير - الذي هو بيان المعنى-, ولكن لشدَّة ارتباط هذا العلم بعلم التفسير نظريةً وتطبيقاً, ولكثرة ما أُثيرَ في كتب التفسير, أُلحِق به في بيان علم التفسير وموضوعاته, وربما توسع بعض العلماء فسمَّاه تفسيراً (13)؛ وذلك حين يرتقي هذا المعنى المستنبط الباطن في شدة قربه وظهوره من المعنى الظاهر, وربما أُرِيدَ معه - على ما سيتبين -, فمن هنا يتوجه تسميته تفسيراً لارتباطه بمعنى الآية من هذا الجانب. وقد كان الحالُ كذلك منذ أوَّلِ نشأةِ علم التفسير وظهوره, ولا تكاد تخرج تفاسير السلف عن هذين الوجهين في الأعم الأغلب.
ومن ثَمَّ يتفقُ علم الاستنباط مع التفسير في أنهما بيانٌ للمعنى, ثم يفترقان في المعنى المُبَيَّن في كلٍّ منهما؛ فللتفسير المعنى الظاهر المباشر اللازم لِلَّفظ, وللاستنباط ما وراءه من المعاني الزائدة, وكلاهما من أجلِّ علوم القرآن الكريم, وألصقها بألفاظه.
:: سمَّى الله تعالى الاستنباط علماً, فقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء 83) , ولولا أن الاستنباط علمٌ معتبَرٌ, وحُجَّةٌ في الشرع, لَمَا أمر اللهُ تعالى عبادَه برَدِّ ما لم يدركوا علمه نَصَّاً إلى من يدركونه بالاستنباط من أهل العلم (14) , فالاستنباط من أهمِّ أسباب دَرَكِ العلوم؛ وله من الأصولِ والضوابط التي تجمع جزئياته, وتَلُمُّ متفرِّقاته, ما يجدر معه بأهل العلم إبرازها وتحديدها, بعد جمعها ودرسها.
:: يجب إعطاءُ ألفاظ القرآن حقَّها, وتوفيتها ما لَهَا من المعاني, وحُسنُ الاستنباط وصحته سبيلٌ إلى ذلك, قال ابن القيم (ت:751): (الواجب فيما علَّقَ عليه الشارعُ الأحكامَ من الألفاظ والمعاني = أن لا يُتَجَاوَز بألفاظها ومعانيها, ولا يُقْصَر بِها, ويعطي اللفظَ حقَّه والمعنى حقَّه, وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه, وأخبر أنهم أهل العلم) (15) , ومن حقِّ اللفظ والمعنى استيعاب المعاني الصحيحة المتعلقة بهما من جهة نِدِّ المعنى ولوازمه وأشباهه ونظائره.
:: للقرآن ظاهرٌ وباطن (16)؛ أمَّا ظاهره فهو: ظاهر المعنى, والمتبادر من اللفظ. وأمَّا باطنه فهو: المعاني الصحيحة المتَّصِلة بالآية من غير دلالة اللفظ المباشرة (17) , وهذا مجال الاستنباط في هذا العلم, وقد يرتفع المعنى الباطن البعيد فيكون مراداً مع المعنى الظاهر القريب لاشتراكهما في الصحة والقبول والدلالة - كما سيأتي في مبحث التطبيق بإذن الله -, لكن لا يصل المعنى الباطن بحالٍ إلى أن يكون مراداً دون المعنى الظاهر, وهذا ما يميز هذا التقسيم عن استعمال الباطنية له؛ فإنهم يؤَصِّلون لهذا التقسيم مع رَدِّهم وإلغائهم للظاهر, والإغراق في معاني باطنة باطلة لا يقبلها نقلٌ صحيح ولا عقلٌ صريح, فيؤول تفسيرهم إلى دعاوى ليست من الظاهر, ولا من الباطن الصحيح في شيء.
:: المعاني المأخوذة بالاستنباط - بطبيعتها - أكثر وأغنى من معاني الألفاظ المباشرة, بل إن من أحكام الحوادث ما لا يُعرَفُ بالنصِّ وإنما بالاستنباط, وكم من سِرٍّ وحُكمٍ نَبَّهت عليهما الإشارة, ولم تبينهما العبارة (18) , قال السهيلي (ت:581): (ليس كل حكم يؤخذ من اللفظ, بل أكثرها تؤخذ من جهة المعاني والاستنباط من النصوص) (19)؛ إذ الألفاظ محصورة, ومعانيها محددة, والوقائع والمناسبات متجددة, وقد أنْزل الله تعالى كتابه الكريم صالحاً لكُلِّ زمان ومكان, وتبياناً لِكُلِّ شيء يتوقف عليه التكليف والتعبد, وتستقيم به حياة الناس؛ من العلوم الشرعية, والحقائق العقلية (20) , وقد أبان عن هذا ابنُ عاشور (ت:1393) في حديثه عن المقصد الأول من مقاصد القرآن الكريم: (كونه
¥