- قال السُّهَيلي (ت:581) عند قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} (النساء 11): (وانتبه أيها التالي لكتاب الله المأمور بتدبره كيف قال: {يوصيكم الله في أولادكم} بلفظ الأولاد دون لفظ الأبناء, ثم أضاف الأولاد إليهم بقوله: {أولادكم} , ومعلوم أن الولد فلذة الكبد, وذلك موجب للرحمة الشديدة, فمع أنه أضاف الأولاد إليهم جعل الوصية لنفسه دونهم؛ ليدل على أنه أرأف وأرحم بالأولاد من آبائهم, ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول العبد لأخيه: أوصيك في أولادك. لأن أبا الولد أرحم بهم فكيف يوصي غيره بهم؟ وإنما المعروف أن يقول: أوصيك بولدي خيراً. فلما قال الله تبارك وتعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} عُلِمَ أن رب الأولاد أرحم بالأولاد من الوالِدِين لهم حيث أوصى بهم وفيهم, وحسبك بقوله سبحانه: {وهو أرحم الراحمين} (يوسف 64) , فالأبوان من الراحمين, فالله تعالى أرحم منهما؛ فلذلك أوصى الآباء بأولادهم) (52) , وهذا استنباطٌ حسنٌ أثنى عليه ابن كثير (ت:774) وقال: (وقد استنبط بعض الأذكياء .. ) ثم ذكره. (53)
- قال القاضي أبو يعلى (ت:458) في قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة 29): (وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان, ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين, وأخذ الضرائب = لا ذمة لهم, وأن دماءهم مباحة؛ لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل) (54) , قال ابن القيم (ت:751): (وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط؛ فإن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار, فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه, ولا ماله, وليست له ذمة, ومن ها هنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صغارهم وإذلالهم, وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهد لهم ولا ذمة, وقد حَلَّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة) (55).
:: علاقةُ علم الاستنباط بعلم التفسير:
الاستنباط على ما سبق تعريفه من أشد علوم القرآن ارتباطاً بعلم التفسير, ولا يتوصل إليه إلا بعد بناء التفسير وتمامه, وقد قَسَمَ ابنُ القيم (ت:751) التفسيرَ إلى ثلاثةِ أقسام, فقال: (وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول (56):
1 - تفسير على اللفظ, وهو الذي ينحُو إليه المتأخرون.
2 - وتفسير على المعنى, وهو الذي يذكره السلف.
3 - وتفسير على الإشارة والقياس, وهو الذي ينحُو إليه كثير من الصوفية وغيرهم) (57).
والقسم الثالث من هذه الأقسام داخلٌ في علم الاستنباط من معاني الآيات, إذ ليس هو بتفسير على اللفظ ولا على المعنى؛ فإنهما ظاهران مباشران, ويبقى الاجتهاد والتأمُّل في هذا القسم. والاستنباط أعمُّ من القياس, وإنما القياس أحد صوره وأشهرها (58) , وعَدُّ هذا القسم من التفسير نوعُ تَوَسُّعٍ سبقت الإشارة إليه (59).
قال ابن تيمية (ت:728) عن هذا الوجه من التفسير: (أما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دلَّ اللفظ عليه, ويجعلون المعنى المُشار إليه مفهوماً من جهة القياس والاعتبار, فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس والاعتبار, وهذا حقٌّ إذا كان قياساً صحيحاً لا فاسداً, واعتباراً مستقيماً لا منحرفاً) (60) , وقال في طرق دلالة اللفظ على المعنى الصحيح: (القسم الثاني: أن يُجعَل ذلك من باب الاعتبار والقياس, لا من باب دلالة اللفظ, فهذا من نوع القياس, فالذي تسميه الفقهاء قياساً, هو الذي تسميه الصوفية إشارة, وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل, كانقسام القياس إلى ذلك) (61) , فالإشارات من باب الاعتبار والقياس, واختصَّ بها في الغالب أرباب السلوك وتزكية النفوس, ومنها صحيحٌ مستقيمٌ, وفاسدٌ منحرفٌ.
:: شروط الاستنباط:
¥