سادساً: ألاَّ يكون المعنى المستنبَطُ مُتَكَلَّفاً, وهذا شرطُ كمالٍ يصون هذا العلم عن الابتذال (74)؛ إذ المعاني المستنبطة لا تُحَدُّ, ومراتبها في القرب والبعد والظهور والخفاء متفاوتة, فلزمَ ضبط كُلِّ ذلك بصيانة المعنى من التكلف, قال ابن تيمية (ت:728): (إن اللسان له موقع من الدين, والعبارة المَرضِيَّة مندوبٌ إليها, كما أن التعَمُّقَ منهيٌّ عنه) (75) , ويعيبُ ابنُ العربي (ت:543) على بعض من وقع في ذلك بقوله: (ومن أحسن ما أُلِّفَ فيه– أي: كتب التفسير القائمة على الاستنباطات– كتاب: «اللطائف والإشارات» للقشيري رضي الله عنه, وإنَّ فيه لَتَكَلُّفاً أوقعه فيه ما سلكه من مقاصد الصوفية) (76).
سابعاً: ألاَّ يَعُدَّ استنباطه من الآية تفسيراً لها بإطلاق, بل يتعيَّن عليه اعتقاده من المعاني التابعة للمعنى الأصلي الظاهر للآية الذي هو تفسيرها, كما يتعيَّن عليه تقييد وصفه لتلك الاستنباطات بالتفسير؛ فيسميها: بالتفسير الإشاري, أو نكت القرآن, أو غيرها ممَّا ميَّز به العلماء هذه الاستنباطات عن غيرها من مؤلفات التفسير الاصطلاحي؛ وذلك لصيانة معاني كتاب الله من التحريف؛ حين يعتقد القارئ مطابقة الاستنباط للفظ الآية.
وهذا ما عبَّر عنه الشاطبي (ت:790) بقوله عن إشارة تفسيرية لأحد المفسرين؛ مُشكِلَةٍ في الظاهر, بعيدةٍ عن السياق: (ولكن له وجهٌ جارٍ على الصِّحَّةِ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية) (77) , ولَمَّا فاتَ أبا عبد الرحمن السلمي (78) (ت:412) الإشارةَ صراحةً إلى هذا الشرط في تفسيره «حقائق التفسير» شَنَّع عليه جماعةٌ من العلماء, حتى قال بعضهم: (إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر) (79) , قال ابن الصلاح (ت:643): (وأنا أقول: الظنُّ بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئاً من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيراً, ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم؛ فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية, وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن؛ فإن النظير يُذكَر بالنظير) (80).
ثامناً: ألاَّ يَقصُرَ معنى الآية عليه؛ لأنه تابع ومترتب على المعنى الأصلي للآية كما سيأتي.
فبهذه الشروط يكمل الاستنباط ويحسن, وباختلالها يؤول الحال إلى ما ذكره ابن القيم (ت:751) عن استنباطٍ لبعض الصوفية اختلت فيه بعض هذه الشروط: (والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز) (81) , وهكذا هو الاستنباط حين تتخلف فيه هذه الشروط أو بعضها, ينقلب من حق وعلم إلى باطل وجهل؛ لا تصح نسبته إلى كتاب الله تعالى بوجه من الوجوه.
:: بيان معنى اللفظ سابق للاستنباط منه, ولا يصح استنباطٌ إلا على معنىً صحيحٍ ثابتٍ لِلَّفظ, فاللفظ بمنْزلة الأساس, والاستنباط بمنْزلة البنيان, و (لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر, ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يُحكِم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب) (82) , قال القرطبي (ت:671): (والنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أولاً؛ ليتَّقي به مواضع الغلط, ثم بعد ذلك يتَّسعُ الفهم والاستنباط, ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر) (83).
:: تتفاوت المعاني المستنبطة في القرب والبعد من معنى الآية, كما تتفاوت في الظهور والخفاء, وكُلُّ ذلك بحسب المعنى المستنبط, ووجه اتصاله بالمعنى الظاهر, وباستعراض أيٍّ من الكتب المفردة في الاستنباطات القرآنية يتضح ذلك بلا خفاء؛ فبينما ترى استنباطاً على التمام, إذ يتلوه آخرُ موغلاً في الإبهام, ثم يمر بك استنباطٌ في القرب والظهور كأنه المعنى المباشر للَّفظ, ويتبعه آخر في البعد والخفاء بما لا يكاد يسفر لك عن وجه اتصاله بالآية.
وهذا التفاوت في المعاني المستنبطة يستلزم التنبيه على أنه لا يمكن عَدُّ الاستنباط معنىً للآية على الاستقلال مهما اشتد قربه وظهوره من المعنى المباشر؛ لأنه تابعٌ للمعنى الأصلي ومترتب عليه كما سبق بيانه, والتفسير شرطٌ في وجوده ولا عكس.
¥