مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (النساء 115) , لا يُصلِيه على خلافِ المؤمنين إلا وهو فرضٌ. قال: فقال: صدقت. وقام وذهب. قال الفاريابي: قال المزنيُّ أو الربيعُ: قال الشافعي: لما ذهب الرجلُ قرأتُ القرآنَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ ثلاثَ مراتٍ حتى وقفتُ عليه) (90). وقد كان هذا الاجتهاد دأبُ الشافعي رحمه الله, ومنه قوله: (لَمَّا أردتُ إملاءَ تصنيف أحكام القرآن قرأتُ القرآنَ مائةَ مَرَّة) (91).
وبالتأمُّل في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه السابق: (مثلُ ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثلِ غيثٍ أصابَ أرضاً فكان منها طائفةٌ طيبةٌ, قبلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير) (92) , ترى جملةً ظاهرةً من أوصاف أهل العلم بالاستنباط احتواها هذا المثل النبوي الجليل, وبيانها: أن قلوبَ هؤلاء العلماء أرضٌ طيبةٌ, قبلت الوحي, واستقر في أعماقها, ثمَّ أنبت الوحي في جوارحهم العمل الصالح الكثير؛ الذي يتعدَّى نفعه أنفسَهم إلى غيرهم. فهم أهل إيمانٍ راسخ, وعملٍ بالعلم ملازم, ونفعٍ للناس دائم.
وهذا يؤكد أنَّ لطهارة الباطن, وزكاء النفس, وعمارة القلب بالتقوى أثرٌ ظاهرٌ في باب الاستنباط, ولهذا المعنى نصيبٌ من قول الله تعالى {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة 282)؛ ووجه ذلك أن انشغال القلب بمعاني العبودية والتقوى يُقَرِّبه من إشاراتها ودلالاتها في الآيات؛ ذلك أنَّ من اهتَمَّ بشيءٍ غلبَ على تفكيره, وتراءى له في كُلِّ ما يقصده, وقد دَلَّ قوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ (69) لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} (يس 69 - 70) على أنَّ فهم المراد من القرآن والانتفاع به إنما يحصل لمن هو حيُّ القلب. كما أن هذه الاستنباطات من نِعَمِ الله تعالى على العبد, ولا تُنَال نِعمةُ الله تعالى بغير طاعته وتقواه, وقد أشارت النصوص الشرعية إلى أن أهل هذه الصفات – من الطاعة والتقوى وحياة القلب - أولى بإصابة الحق من غيرهم؛ إذ معهم من أسباب الهداية والإصابة ما يدنيهم من الحقِّ ويُجَلِّيه لهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء) (93) , قال ابن تيمية (ت:728): (ومن كان معه نورٌ وبرهانٌ وضياءٌ كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟! , وفي الحديث الصحيح: (لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها) (94) , ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرةٍ نافذةٍ, ونَفْسٍ فَعَّالَة, وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت, بخلاف القلب الخراب المُظلم, وكُلَّما قويَ الإيمانُ في القلب قويَ انكشافُ الأمور له, وعرف حقائقها من بواطلها) (95).
وممَّا يُعين المفسِّر على حسن الاستنباط: تفريغ القلب من الشواغل, وجمعه على ما هو بصدده من تأمُّل دقائق المعاني ولطائفها, قال الرازي (ت:606) مبيناً أثر انشغال القلب على الاستنباط: (فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية, وهي مئةُ مسألة, وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة, وكان القلب مشوَّشاً بسبب استيلاء الكفار على بلاد المسلمين, فنسأل الله تعالى أن يكفينا شرَّهم, وأن يجعل كَدَّنا في استنباط أحكام الله من نَصِّ الله سبباً لرجحان الحسنات على السيئات, إنه أعزُّ مأمول, وأكرم مسؤول) (96).
ولاعتياد الاستنباط والدربة عليه أثرٌ ظاهرٌ في التمكُّن منه وإتقانه, شأنه في هذا شأن سائر العلوم التي لا يتحقق العالم وترسخ فيها قدمه إلا بمعاناتها وإدمان النظر فيها, ومن أحسن الشواهد على هذا في علم الاستنباط حال الإمام الرازي (ت:606) رحمه الله؛ الذي قصد إلى تحقيق استنباط عشرة آلاف مسألة من سورة الفاتحة, فشرع في تفسيره الجليل: التفسير الكبير, ومَلَأَهُ بعجائب العلوم والاستنباطات (97). فيقول شاهداً على أثر معاناة الاستنباط واعتياده, بعد ذكره لطائفة من دقائق المسائل والاستنباطات في قوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ
¥