تكررت في ثنايا السورة بعض المشاهد الكونية التي ترسخ في نفس قارئها أن الاختلاف سنة كونية , وكأن الآيات تريد أن تعبر بنا من خلال هذه المسلمات الكونية الى أن الاختلاف لابد وأنه واقع كذلك في الأمور الشرعية , بل إن حكمته سبحانه اقتضت أن يختلف الناس حتى يحصل الابتلاء و التكليف وعلى هذا قامت الدعوات والرسالات: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
ومن تلك المشاهد الكونية التي جاءت في السورة: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
وقال سبحانه: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
وقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وهذا الأسلوب تكرر في القرآن وجاءت آيات صريحة في سورة الليل تدل على هذا قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فكما يختلف الليل والنهار والذكر والأنثى , تختلف كذلك مشارب الناس وأهواءهم ومقاصدهم ...
أسباب الاختلاف:
السورة في مجملها واضحة في دعوتها إلى التوحيد وترك الشرك , و لا شك أن التوحيد والإيمان هو سبب كل الفة ووحدة , وأن الشرك هو من أعظم أسباب الإختلاف والتفرق لذلك ناقشت السورة هاتين القضيتين ودعت إلى توحيد الله تعالى: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (15) كما حذرت من الشرك: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (21).
أشارت السورة كذلك إلى بعض أسباب الاختلاف والتفرق الذي حصل بالأمم السابقة وأنه البغي والعناد والتكبر على الحق: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ (14) " أي: إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة" ابن كثير.
حصل ذلك منهم مع أن الله أوصاهم وأوصى أنبياءه- وخص منهم في هذه السورة أولو العزم من الرسل- أوصاهم بإقامة الدين وعدم التفرق فيه: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13) قال البغوي "بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة".
ومن أسباب الاختلاف المذكورة في السورة إرادة الانسان بعمله الدنيا والرياء بالعمل ونسيان الآخرة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
ومنها القول على الله بغير علم: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
ومنها الاقتتال على الدنيا ومافيها , وكم فرقت الدنيا بأموالها وزينتها وزخرفها بين المجتمعين لذلك بين الله قانونه السماوي في مسألة الأرزاق و بين حكمته من ذلك: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
ومنها الذنوب والمعاصي: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
العلاج والتوصيات لحل الخلاف:
¥