[وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب!]
ـ[نسيم بسالم]ــــــــ[23 Oct 2010, 01:15 م]ـ
استَوقَفتني هذه العِبارة القُرآنيَّة الرَّائِعة وَأنا في حَلقَة ذِكر في الأصِيل؛ فسنَحَت في ذِهني بَعضُ خَواطِر حَولَها؛ فقُلتُ أجتَهِدُ أن أُقيِّدَها حتَّى لا تَنفَلِت مِنِّي؛ فإنَّ الخَواطر و (بَنات اللَّحظَة) أسرَع تفلُّتا مِن الإبِل في عِقالِها!
أورَد الباري عزَّ وجل هذه الكَلمات الجامِعة الأخَّاذَة في سياقِ حديثِه عَن عبده ورَسُولِه داوود عليه السَّلام.
يقول تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} سورة "ص".
يُثبِّت الله تعالى رسُوله الكريم مُحمَّد (عليه أفضَل الصَّلاة والسَّلام)، ويُصبِّره على أذَى المُشركين وقَدحهم في نُبوَّتِه، ويُذَكِّرُه بِقصَّة نبي مِن قَبلِه مِن أولي الأَيد والعَزم؛ إنَّه داوود عليه السَّلام!
إنَّه حقا لَتناغُم كَوني ساحِر بينَ ذَلك النَّبي المُسبِّح الأوَّاب؛ وتِلك الجبال التي تُؤوِّب مَعه، وتِلك الطَّير المَحشُورة التي تَصدَح حناجِرَها بالذِّكر طَرفي النَّهار في وقتَين هادئين مُجلَّلين بِصَمت مَهيب؛ لا تَسمَع فيه إلاَّ ذِكر لذي العزَّة والمَلكُوت يملأ الآفاق والأَرجاء!
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].
أينَ نُور أمثالُ تِلكَ المَجالِس والرَّاحة النَّفسيَّة التي يَجدُها المَرء فيها؛ مِن مَجالس اللَّغو الفارغة، ومَجالِس النِّقاش والجَدل العَقيم، ومَجالِسُ ذِكر الأَمراض والمَشاكِل والأدواء؟! شتَّانَ بينَ الثَّرى والثُّريَّا، وشتَّان بينَ اللَّجينِ واللُّجين كَما يقُولون!
فماذا كانَ جَزاءُ هذَا النَّبي الأوَّاب؟! لقَد أكرمَه الوهَّاب المنَّان بثلاثِ مكرُمات!
أوّلها: أنَّ الله تعالى شَدَّ مُلكَه، بكلِّ ما تَحمِل هذه الكَلمة مِن دلالات؛ الأمن والاستِقرار، وجريان الأُمور على أحسَن ما يَكُون، وانقياد الرَّعيَّة لَه، وتَمكين دِين الله في مملَكتِه ... الخ
ثانيها: آتاه الله الحِكمَة؛ والحكمَةُ وَضع الأشياء المُناسِبة في محالِّها المُناسبَة لها؛ زمانا ومَكانا، وكيفيَّة، وتسييرا!
ثالِثُها: أعطاهُ الله سَدادا في الحُكم على القَضايا والوَقائِع المَطرُوحَة عَليه ليفصِل فيها، ويقُولَ فيها كَلمة الحق مِن غير وَكس ولا شَطط!
كلُّ هذا مِن برَكات ذِكره وتسبيحِه لربِّه بالعَشي والإشراق!
اندَلقَ إلى خَاطري وأنا أتكلَّم في هذه المَعاني للإخوة الأكارم؛ ما كُتِب ويُكتَبُ في الحَضارَة والتمكين الحَضاري، والنَّهضَة الحِضاريَّة، ومعايير الحَضارات المُتقدِّمة؛ وكَذا ما يُكتَب في الدَّولة والسِّياسَة، وأنظِمة الحُكم، وأسباب قُوَّتِها وضُعفِها وما إلى ذَلك؛ فقُلتُ في كلِّ ذَلك: أين محلُّ الذِّكر والتَّسبيح مِن مُعادَلة الحَضارة والسياسَة، وقيام الأُمم وزوالِها، وقُوَّة النِّظام الحَاكم وضُعفه؟!
ألقَيتُ إطلالَة سَريعَة على بَعض ما كُتِبَ في الشَّأن؛ فألفَيتُ الحديثَ عَن المادَّة طاغيا، ولا يُتطرَّق إلى الغَيب إلا لِماما! في حينِ نَجِد أنَّ كِتابَ الله عزَّ وجل يُركِّزُ أوَّل ما يُركِّزُ (في شَتَّى مَواضيعه وقضاياه) على الغَيبِ أوَّلا، ويُولي لَه مِن التَّذكير الشَّيء الكَثير؛ مِن غَير إهمالِ قَوانينِ المادَّة والتَّهوين مِن شأنِ نَواميسِ الكَون التي أقامَ الله ميزانَها بالقِسط، وأمرَنا أن لا نُخسِر الميزان!
¥