(وكذا إن كان علمًا في مذهبِ الخليلِ وسيبويه وأبي عمرو وابن أبي إسحاق. وأما يونُس وأبو زيدٍ وعيسى والكسائي، فيقولون في قاضي اسم امرأة: هذا قاضي، ومررت بقاضيَ).
ولِيتبينَ الغلطَ أكثرَ من ذلك، انظر إلى ما قالَ سيبويه رحمه الله في كتابه:
(وأمّا يونس فكان ينظر إلى كلّ شيء من هذا إذا كان معرفة كيف حال نظيره من غير المعتل معرفة؛ فإذا كان لا ينصرف لم يصرف، يقول: هذا جواريْ قد جاء، ومررت بجواريَ قبل. وقال الخليل: هذا خطأ؛ لو كان من شأنهم أن يقولوا هذا في موضع الجرّ لكانوا خلقاء أن يلزموها الجر والرفع، إذ صار عندهم بمنزلة غير المعتلّ في موضع الجرّ، ولكانوا خلقاء أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجرّ، فيقولوا: مررت بجواريَ قبل، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حال واحدة) [الكتاب / 3: 312، هارون].
فأنت تراه نقلَ عن يونسَ شيخِه أنَّ خلافَه إنما هو في نحوِ (جوارٍ) إذا كانَ معرفةً؛ أي: علمًا.
ولو كانَ يونسُ يقولُ بهذا لم يلزمه الخليلُ برأيٍ يقولُ به؛ إذ قالَ: (ولكانوا خلقاءَ أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجرّ، فيقولوا: مررت بجواري قبل، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حال واحدة).
فهو يردُّ على يونسَ بأنه لو كانَ كما يقولُ في مسئلة جوارٍ علمًا، لكانَ العربُ خلقاءَ أن يقولوا: مررتُ بجواريَ قبلُ إذا كانت نكرةً، لأنَّ حكمَهما واحدٌ. ولو كانَ يونسُ يرى هذا لم يكن الخليلُ ليُلزمَه بشيءٍ يراه، ولا يدفعُه.
فإذا كانوا – كما ترى - أخطئوا في نقلِ قولِه، فجائزٌ أن يخطئوا في نقلِ قولِ غيرِه؛ ولا سيَّما مع ما ذكرنا من قولِ ابن مالكٍ – وهو عالِم محقّق -.
وإنه لا يمنعنا إجلالنا لهم، ومعرفتنا فضلَهم أن نخطّئَهم، وننسبَهم إلى السهوِ والخلْطِ؛ فإنَّ ذلك لا يَنقص من قدرِهم، ولا يحطّ من مكانتِهم، والله لم يجعلِ العلماءَ موقَّينَ الخطأ. وليس هذا بحاملٍ لنا على أن ننسبَهم إلى الجهل، لأنهم أهلٌ للاجتهادِ؛ وإنما يُنسب إلى الجهلِ مَن ليس أهلاً لذلكَ، ممن هو كما قال حسانٌ:
وأنت دعيّ نِيط في آلِ هاشمٍ ... كما نيطَ خلفَ الراكبِ القدحُ الفردُ
أما بيتُ ابنِ مالكٍ:
وحذفُ يا المنقوصِ ذي التنوين ما ... لم ينصبَ اولى من ثبوتٍ فاعلما
فلا يصِح الاحتجاجُ له بقوله:
وربما أعطي لفظُ الوصل ما ... للوقف نثرًا، وفشا منتظما
إذ قولُه هذا قضيةٌ مسوَّرة بسور جزئيٍّ؛ وهو قولُه: (ربَّما)، والقضايا الجزئيةُ لا يجوزُ أن تكونَ مقدِّمةً كبرى، يُحتَجُّ بها؛ إذ لعلَّ الدعوى من غيرِ الداخلِ في الجزءِ المذكورِ؛ قالَ الأخضريُّ في سُلَّمه:
فحيث عن هذا النظامِ يُعدَلُ ... ففاسد النظامِ، أما الأولُ
فشرطُه الإيجابُ في صغراه ... وأن تُرى كليّةً كُبراه
وهو هنا كذلك؛ فالداخلُ في (ربما) ما سُمِع عن العرب؛ وهو قليلٌ في النثرِ؛ فلا يُقاسُ عليهِ مطلقًا. ويلزمُ القائلَ بهذا أن يقولَ: (رأيت زيدا في الدارِ) بإبدال تنوين دالِ (زيدا) ألفًا. ولا أعلمُ أحدًا قالَ به. ويلزمُه أيضًا غيرُ ذلك مما هو على حدِّه.
لعلي أجتزئ بهذا؛ فإن في قليلِه شاهدًا على غيرِه لمن تدبَّرَ. وأنا شاكر لأخينا أن بعثنا على تحقيقِ هذه المسئلةِ، والإبداءِ عن صفحةِ وجههِا.
الحجة
ـ[أبو قصي]ــــــــ[06 - 09 - 2007, 07:31 م]ـ
هذا ما كتبتُ برأي نفسي، ثم وجدتُّ بعدَ ذلك نصَّينِ نفيسينِ يظاهرانِ ما ذهبتُ إليهِ، ويبيِّنانِ صوابَه، وأني كنتُ فيه على حقٍّ، مع أني لم أقعْ على قولِهما إلا بعدَما قلتُ قولي – فلله الحمدُ -:
1 - قالَ أبو حيانَ – وهو لا يكاد يُبارى في سعةِ الاطلاعِ، ومعرفة الخلافِ -: (وما آخره ياءٌ قبلَها كسرةٌ يكونُ جمعًا متناهيًا؛ نحو: جوارٍ ... فهذا يُنوَّن في الرفع والجر، وتظهر الفتحة بغير تنوين في النصب. وما كان منه علمًا فمذهب يونس وأبي زيد وعيسى والكسائي وأهل بغداد أن الفتحة تظهر في حالة الجر كما تظهر في النصب، ويمنع التنوين مطلقًا؛ فتقول: قام جواريْ، ورأيتُ جواريَ، ومررت بجواريَ ... ومذهب أبي إسحاق وأبي عمرو والخليل وسيبويه وجمهور أهل البصرة أنه يُنوَّن رفعًا وجرًّا، وتحذف ياؤه فيهما، ويُتمّ في النصب ولا ينون. وما ذكره أبو علي [يريد الفارسي] من أن يونسَ وهؤلاء ذهبوا إلى أنه لا تحذف الياء إذا كان جوارٍ نكرةً ولم يُسمّ به؛ فتقول: هن جواريْ، ومررت بجواريَ فلا يُنون وهَم وخطأ ومخالفة للغة العرب والقرآن) [ارتشاف الضرب / 2: 889، 890، مكتبة الخانجي].
2 - قالَ ابنُ عقيلٍ في شرح قولِ ابن مالكٍ في التسهيلِ: (ويُحكم للعلم منه عند يونسَ بحكم الصحيح، إلا في ظهور الرفع) قالَ ابن عقيل:
فإذا سميتَ بجوارٍ قلت عند يونس: هذا جواري، بإثبات الياء، وإسقاط التنوين، ومررت بجواريَ ... وهو أيضًا قول أبي زيد وعيسى والكسائي والبغداديين، ومذهبُ سيبويه وجمهور البصريين أنه يبقى على ما كان قبل العلمية ... وقوله [أي: قول ابن مالك]: (للعلمِ منه) يُخرج النكرة؛ فلا يفعل يونس فيها ذلك؛ بل هو فيها كغيره، وكذا من ذكر معه من القائلين بقوله. ووقع للفارسي وهم في ذلك؛ فنقل عنهم في النكرة أيضًا ما قالوه في العلمِ) [المساعد / 3: 30، 31، طبعة أم القرى].
قلتُ: لعلَّ مَن قالَ بقولِ الفارسيِّ ناقلٌ عنه، معوِّلٌ عليه؛ فبخطئِه أخطأ.
لعلَّ في هذا بلاغًا لقومٍ يفقهونَ.
الحجة
¥