فإذا كنا سنتوقف في قبول كلام هؤلاء العلماء في الاحتجاج بالشافعي، فمن باب أولى أن نتوقف عن قبول كلامهم في تحديد عصر الاحتجاج؛ لأن معرفة فصاحة شخص بعينه أسهل كثيرا من تحديد سنة بعينها يقبل كل من قبلها ولا يقبل كل من بعدها.
والذي يظهر من الصنيع العملي لأهل العلم أن الأمر راجع للقرائن أكثر مما هو راجع للتحديد الزمني الدقيق، وإنما نصوا على هذا التحديد تقريبا وتسهيلا على المتعلم.
وقد أخطأ من ظن أن الزمخشري احتج بشعر أبي تمام، وإنما قصد الزمخشري الاستئناس بفصاحته؛ اعتمادا على أنه لو كان خطأ لبادر غير واحد من أعدائه للرد عليه كما فعلوا مع المتنبي وغيره، ولذلك أيضا احتج ابن السيد البطليوسي بكلام المتنبي، لا لأنه حجة، ولكن لأن أعداء المتنبي كانوا كثيرين جدا، والكتب المصنفة في انتقاد شعره كثيرة، ولو كان كلامه خطأ لبادر هؤلاء إلى الرد عليه، لا سيما وهم يردون عليه بما هو أوهى من خيوط العنكبوت أحيانا.
فالمقصود بما سبق أن مسألة الاحتجاج بكلام الشافعي لا تختلف عن أن يقول سيبويه مثلا: سمعت أعرابيا فصيحا يقول، وسيبويه بعد عصر الاحتجاج، فلو كان التحديد بمجرد الزمن لكان هذا الأعرابي أيضا لا يحتج بكلامه، وابن جني أيضا كان يقول أحيانا: سمعت أعرابيا، وابن جني متوفى في آخر القرن الرابع!!
فالحاصل أننا إذا سمعنا أحد العلماء الثقات الذين نقبل نقلهم في لغة العرب يقول: إن الشافعي فصيح يحتج بكلامه، فينبغي أن نقبل هذا، كما نقبله في كلامهم عن الأعراب الفصحاء؛ لأنه من باب النقل الذي يفتقر إلى صحة السند لا من باب القول الذي يفتقر إلى دليل.
وليس الاحتجاج بكلام الشافعي من باب الاحتجاج بعلمه، بل هذه حجة فاسدة جدا، وكثيرا ما يحتج بها أصحاب المجامع لتسويغ آرائهم المخالفة لإجماع العلماء.
ولكن هذا لا يمنع أن يكون إيراد كلام العالم استئناسا لا احتجاجا، بحيث يقوى هذا الاستئناس ويصير احتجاجا إذا وجدنا العلماء قد أقروا هذا الاستعمال قديما وحديثا؛ لأن إقرار الجمع العظيم من العلماء قد يكون أقوى من نقل الآحاد؛ لأننا نعلم يقينا أن لغة العرب لم تنقل إلينا كاملة، وليس هذا احتجاجا بعدم العلم، وإنما هو بيان لطريق آخر من طرق العلم غير نقل الآحاد، وهو الإقرار المحصل.
مثال ذلك كلمة (طبيعي)، فبعد البحث الشديد لم أقف عليها في أي نص من عصور الاحتجاج، ومع ذلك فقد وقفت عليها في مئات النصوص الأخرى، وقد يقال: إن هذه حجة ضعيفة، لكن إذا انضم إليها أنه لا يوجد فيما أعلم في أي عصر من العصور من أنكر هذه الكلمة أو عدها لحنا، ساغ لنا أن نحتج بهذا الإقرار من هؤلاء العلماء على تسويغ هذا الاستعمال.
وهذه المسألة التي نبحثها الآن من المسائل المهمة بمكان؛ لأنها تدخل فيما يسمى (أصول النحو) بمعنى العلم المدون بهذا الاسم، وهو العلم الذي لم يلق اهتماما كبيرا من القدماء، أعني لم يفردوه بالتصنيف وإن كان منثورا في كلامهم.
أسعدك الله في الدنيا والآخرة يا أبا قصي، فكم ظللت أتمنى أن أجد من يشاطرني بحث هذه المسائل.
ـ[أبو قصي]ــــــــ[10 - 10 - 2008, 10:54 م]ـ
آمينَ آمينَ.
أحسنَ الله إليك، وبارك فيكَ.
يسرُّني أن نتدارسَ معًا في هذه المسألةِ اللَّطيفةِ.
قد رأيتُ أن الحديثَ انحصرَ في قضيَّةِ الاحتجاجِ بالإمام الشافعيِّ رحمه الله. وهذا أولَى، لأنَّ مسألةَ المنقوصِ متفرّعةٌ عنه. وقد زوَّرتُ في نفسي كلامًا لمَّا أكتبْه. ولكن قبلَ أن أضعَه أودُّ أن تذكرَ هنَا الثلاثينَ الذين احتجُّوا بالشافعيِّ، أو أقرّوا الاحتجاجَ بهِ، معَ نصِّ كلامِهم، حتى ننتهيَ إلى تمحيصِ المسألةِ، وتحقيقِها بدِقَّةٍ واستيفاءٍ. فإن كانَ هذا يئودُكَ، فبحسبِك أن تورِدَ كلامَ أهلِ اللُّغةِ والنحوِ من المتقدِّمينَ. وما أريدُ أن أشقَّ عليكَ.
وسأعودُ إلى التعقيبِ المفصَّل بعد ذلك إن شاء الله تعالَى.
= قد أتأخرُ لكثرةِ الشُّغولِ، فاعذِرني؛ فإني آتٍ بإذن الله.
وتقبل من أخيكَ صادقَ المودَّةِ.
ـ[ابن بريدة]ــــــــ[11 - 10 - 2008, 12:52 ص]ـ
أخويّ الفاضلين .. أبا مالك وأبا قصي.
حوار رائع ماتع وفقكما الله.
ذكر السيوطي رحمه الله أن الشافعي رحمه الله من الأئمة الذين يحتج بكلامهم، وسأنقل نص كلامه بإذن الله.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[11 - 10 - 2008, 02:39 ص]ـ
قد رأيتُ أن الحديثَ انحصرَ في قضيَّةِ الاحتجاجِ بالإمام الشافعيِّ رحمه الله. وهذا أولَى، لأنَّ مسألةَ المنقوصِ متفرّعةٌ عنه.
وفقك الله وسدد خطاك
الحديث عن الاحتجاج بالشافعي جاء عرضا وتتمة؛ لأننا حتى لو تنزلنا وقلنا إن لك أن لا تعتبر الشافعي حجة في اللغة، فهذا لا يمنع من لزوم ترك التثريب على المخالف، وهو المراد هنا.
وهذه اللغة محكية عند أهل العلم في النصوص السابق ذكرها بغض النظر عن وقوعها في كلام الشافعي.
¥