والجوابية: نقيضة نعم. كقولك لا في جواب: هل قام زيد? وهي نائبة مناب الجملة. وزعم ابن طلحة أن الكلمة الواحدة، وجوداً وتقديراً، تكون كلاماً، إذا نابت مناب الكلام. نحو نعم ولا في الجواب. وهو فاسد. وإنما الكلام هو الجملة المقدرة بعد نعم ولا.
وأما النافية، غير العاطفة والجوابية، فإنها تدخل على الأسماء، والأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يكون مضارعاً. ونص الزمخشري، ومعظم المتأخرين، على أنها تخلصه للاستقبال. وهو ظاهر مذهب سيبويه. وذهب الأخفش، والمبرد، وتبعهما ابن مالك، إلى أن ذلك غير لازم، بل قد يكون المنفي بها للحال.
قال ابن مالك: وهو لازم لسيبويه، وغيره من القدماء، لإجماعهم على صحة قام القوم لا يكون زيداً بمعنى: إلا زيداً. ومعلوم أن المستثني للاستثناء، والإنشاء لابد من مقارنة معناه للفظه، والاستقبال يباينه. وأجمعوا على إيقاعها في موضع ينافي الاستقبال. نحو: أتظن ذلك كائناً أم لا تظنه? وما لك لا تقبل وأراك لا تبالي، وما شأنك لا توافق? وغر الزمخشري وغيره من المتأخرين قول سيبويه إذا قال: هو يفعل، أي: هو في حال فعل، فإن نفيه: ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعاً، فإن نفيه: لا يفعل. وإنما نبه على الأولى، في رأيه، والأكثر في الاستعمال.
وقد تدخل لا النافية على الماضي قليلاً. والأكثر حينئذ أن تكون مكررة، كقوله تعالى "فلا صدق، ولا صلى". وقد جاءت غير مكررة، في قوله تعالى "فلا اقتحم العقبة". وفي قول الشاعر: وأي شيء، منكر، لا فعله وفي قوله: وأي عبد، لك، لا ألما قال الزمخشري: فإن قلت: قل ما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة- ونحو قوله: وأي أمر، سيىء، لا فعله لا يكاد يقع- فما بالها لم تكرر، في الكلام الأفصح. يعني قوله تعالى "فلا اقتحم العقبة"? قلت: هي مكررة في المعنى، لأن معنى فلا اقتحم العقبة: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً؛ ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج: قوله "ثم كان من الذين آمنوا" يدل على معنى: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن.
قلت: وذهب قوم إلى أن قوله تعالى فلا اقتحم تحضيض، بمعنى: فألا. ذكره ابن عطية. وقيل: هو دعاء، والمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأنه لا يفعل خيراً.
وإذا دخلت على الأسماء فيليها المبتدأ، نحو: لا زيد في الدار ولا عمرة، والخبر المقدم، نحو "لا فيها غول، ولا هم عنها ينزفون". ويجب تكرارها في ذلك. وكذلك يجب تكرارها إذا وليها خبر، نحو: زيد لا قائم ولا قاعد، أو نعت، نحو "زيتونة لا شرقية، ولا غربية"، أو حال، نحو: جاء زيد لا باكياً ولا ضاحكاً. وربما أفردت في الشعر، كقول الشاعر:
قهرت العدا، لا مستعيناً بعصبة ولكن بأنواع الخدائع، والمكر
وأما لا الناهية فحرف، يجزم الفعل المضارع، ويخلصه للاستقبال، نحو "لا تخافي، ولا تحزني". وترد للدعاء، نحو "لا تؤاخذنا، إن نسينا، أو أخطأنا". ولذلك قال بعضهم: لا الطلبية، ليشمل النهي وغيره، كما تقدم في لام الأمر.
وزعم بعض النحويين أن أصل لا الطلبية لام الأمر، زيد عليها ألف، فانفتحت. وزعم السهيلي أنها لا النافية، والجزم بعدها بلام الأمر مضمرة قبلها. وحذفت كراهة اجتماع لامين في اللفظ. وهما زعمان ضعيفان.
وأما لا الزائدة فلها ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون زائدة، من جهة اللفظ، فقط. كقولهم: جئت بلا زاد، وغضبت من لا شيء. ف لا في ذلك زائدة، من جهة اللفظ، لوصول عمل ما قبلها إلى ما بعدها. وليست زائدة، من جهة المعنى، لأنها تفيد النفي. ولكنهم أطلقوا عليها الزيادة لما ذكرنا.
وروي عن بعض العرب: جئت بلا شيء، بالفتح على تركيب الاسم مع لا، وجعلها عاملة. وهو نادر، لما فيه من تعليق حرف الجر عن العمل.
وحكى بعضهم، عن الكوفيين، أن لا في قولهم: جئت بلا زاد، اسم بمعنى غير، لدخول حرف الجر عليها، كما جعلت عن وعلى اسمين، إذا دخل حرف الجر عليهما. ورد بأن عن وعلى لم تثبت لهما الزيادة، فلذلك حكم باسميتهما، بخلاف لا فإنها قد ثبتت لها الزيادة.
الثاني: أن تكون زائدة، لتوكيد النفي. نحو: ما يستوي زيد ولا عمرو. وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الواو. ومنه قوله تعالى "غير المغضوب عليهم، ولا الضالين"، ف لا زائدة، لتوكيد النفي، قالوا: وتعين دخولها في الآية، لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين.
الثالث: أن تكون زائدة، دخولها كخروجها. وهذا مما لا يقاس عليه. ومنه قول الشاعر:
تذكرت ليلى، فاعترتني صبابة وكاد ضمير القلب لا يتقطع
وأنشدوا، على ذلك، أبياتاً أخر. وأكثرها محتمل للتأويل. منها قول الشاعر:
أبى جوده لا البخل، واستعجلت به نعم من فتى، لا يمنع الجود قاتله
وقول الآخر:
ويلحينني، في اللهو، ألا أحبه وللهو داع، دائب، غير غافل
وقول الراجز:
ولا ألوم البيض، ألا تسخرا إذا رأين الشمط، المنورا
وتأول الزجاج قوله لا البخل، فقال: لا مفعولة، والبخل بدل منها. وروى عن يونس، عن أبي عمرو، أن الرواية فيه لا البخل، بخفض اللام، لأن لا قد تتضمن جوداً، إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. وتأول قوله ألا أحبه على تقدير: إرادة ألا أحبه. قلت: وهو جار في البيت الثالث.
ومن زيادة لا قوله تعالى "لئلا يعلم أهل الكتاب"، أي: يعلم. نص على ذلك الأئمة. وجعل كثير منهم لا زائدة، في قوله تعالى "ما منعك ألا تسجد"، وفي قوله تعالى "وحرام على قرية، أهلكناها، أنهم لا يرجعون". وتأول ذلك بعض المعربين، وهو أولى من دعوى الزيادة. والله أعلم.