ومنه أيضا: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، فمرجع الضمير: "هو" إما أن يكون الخليل إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيرجع إلى أقرب مذكور، فيكون الخليل عليه الصلاة والسلام: هو الذي سمانا: المسلمين، وإما أن يكون الباري، عز وجل، فيكون الله عز وجل: هو الذي سمانا بذلك، فيعود الضمير إلى غير أقرب مذكور.
وإلى ذلك أشار الزمخشري، غفر الله له، في كشافه بقوله: " {هُوَ} يرجع إلى الله تعالى. وقيل: إلى إبراهيم. ويشهد للقول الأوّل قراءة أبيّ بن كعب: «الله سماكم» ". اهـ
وقراءة أبي رضي الله عنه: قراءة آحاد، لم تثبت قرآنا متواترا، فمن أجاز الاحتجاج بقراءة الآحاد إذا رفعها القارئ إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو حكاها قرآنا، كما اختار ذلك الماوردي رحمه الله، فإنه يستأنس بها من باب أولى في مسائل اللغة
*****
ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، فالضمير في "فملاقيه" إما أن يرجع إلى: "كدحا" فيكون راجعا لأقرب مذكور، أي: فملاقٍ عملك، وإما أن يرجع إلى: "ربك"، أي ملاقٍ ربك جل وعلا، فيكون راجعا لغير أقرب مذكور.
وإليه أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله: "وروى الضحاك عن ابن عباس: "إنك كادح" أي: راجع، "إلى ربك كدحا" أي رجوعا لا محالة. (فملاقيه): أي ملاق ربك. وقيل: ملاق عملك". اهـ.
فالكدح يحتمل الرجوع، ويحتمل المجاهدة والعمل، (من: كدح جلده إذا خدشه كناية عن شدة معالجة الأمور كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله)، وهو المعنى الذي يستقيم به التمثيل بهذه الآية.
*****
ومنه قوله تعالى: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا)
فالضمير المستتر في "قال" راجع إلى غير أقرب مذكور بداهة، فلا يستقيم أن يكون راجعا إلى لفظ الجلالة: "الله"، فيكون المعنى: وقال الله لأتخذن من عبادك، فهذا معنى في غاية الفساد، ولكنه راجع إلى الشيطان، ولذلك كان الوصل ممنوعا بعد لفظ الجلالة، فيقف القارئ وجوبا على لفظ الجلالة، ثم يستأنف لئلا يقع في ذهن المستمع ذلك المعنى الفاسد إذا أرجع الضمير إلى الله عز وجل.
*****
ومنه أيضا: قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، فالضمائر في: "تعزروه" و "توقروه" راجعة إلى أقرب مذكور وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالتوقير والتعزير في حقه واجب على كل مسلم، بخلاف الضمير في "تسبحوه" فهو راجع إلى الله، عز وجل، لأن التسبيح في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم محال، إذ التسبيح لا يكون إلا لله عز وجل، فدل السياق هنا أيضا على مرجع الضمائر فجاز رجوع بعضها إلى أقرب مذكور، وامتنع ذلك في بعض، فوجب رجوعها إلى ما قبله ليستقيم المعنى، فالسياق قرينة مرجحة في مثل تلك المضائق.
*****
ومنه أيضا: قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته):
فالضمير في: "به" راجع إلى المسيح عليه الصلاة والسلام، والضمير في: "موته" راجع إلى الكتابي.
وقيل: برجوع الضميرين إلى المسيح عليه الصلاة والسلام، أي: ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح بعد نزوله لقتل الدجال، وهو اختيار الطبري رحمه الله، فاختلف مرجع الضمائر تبعا للمعنى، وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله: "قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: المعنى ليؤمنن بالمسيح: "قبل موته" أي الكتابي، فالهاء الأولى عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي، وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع، لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله .................. وقيل: إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام، والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري". اهـ بتصرف.
*****
ومنه قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
فـ: "هم" إما أن يرجع إلى سليمان وجنوده فيكون راجعا على أقرب مذكور، وإما أن يرجع إلى جماعة النمل فيكون راجعا إلى غير أقرب مذكور.
وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله: " وهم لا يشعرون: يجوز أن يكون حالا من سليمان وجنوده، (وهو الاحتمال الأول) ............... أو حالا من النمل أيضا ............... على أن المعنى: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها، (وهو الاحتمال الثاني)، وفيه بعد". اهـ بتصرف.
"الجامع لأحكام القرآن"، (13/ 141).
والمسألة تستحق التتبع، ففيها خير كثير.
والله أعلى وأعلم.
¥