ومع هذا فإنهم إبّان وضع الأقيسة والقواعد والتقسيمات وتصنيف الكلمات والبحث في خصائص الألفاظ ذات الوظائف في الجملة العربية، لم يفكروا في درس نحوي خاص للنص القرآني، وكيف لا يكون ذلك، وقد انماز عن كلام العرب، واستحق ذلك الدرس ليُعرف ما فيه من أساليب وألفاظ ودلالات مما سيكون عونًا لهم فيما قصدوا إليه، مع أنّ بذرة هذه الفكرة كانت عند الخليل وغيره عندما كانوا يقولون: وليس في القرآن من كذا سوى موضع واحد، أو أنّ فيه كذا موضع، إلى غير ذلك من عبارات، وقل مثل ذلك عن الحديث الشريف والشعر.
ثالثا: أنهم وهم يعنون بالسماع بعرض القواعد والأقيسة عليه بعد تقريرها أحيانًا كثيرة كانوا - بالنسبة للقرآن - يعرضون بعض القواعد على آيات منه فلا نظرة شاملة في النص، وتلك الآيات مما قد يهتم به نحويّ بعينه فليست منهجا لجميع النحاة؛ لأنّ بعضهم لا همّ له إلا القاعدةُ وضبطها وإِحْكامها وليس من مقاصدهم عرضُ كلِّ قاعدة على كلِّ القرآن، ولا عرضُ قاعدة من القواعد عليه كلّه، ومع هذا فإن عرضهم لبعض القواعد على بعض القرآن لم ينقطع عند عدد لا بأس به من المتقدمين والمتأخرين منهم، وهذا مع ما فيه من قصور لكنّه أبقى الصلة بين النص القرآني والنحو بشكل ما.
رابعًا: عندما يزعم أحد النحاة أنه يقيس على الأكثر وما عداه يسميه لغة، لا يمكن الاعتقاد بأن هذا منهج النحاة جميعا؛ فالنظر إلى مجموع من النصوص ودراسته لم يذكر عن أحد من النحاة، وتلك الدراسات التي قامت على القرآن ككتب معاني القرآن وإعرابه كانت قائمة على نحوٍ ثبتت أصوله وقعّدت قواعده؛ فأصبحت المسألة عند المعربين بحثًا عن شواهد للقواعد المعروفة سلفا، أو عرضا لتلك القواعد على النصوص لمعرفة ما يوافق القاعدة أو يخالفها من الآيات، بهدف إحكام القواعد وضبطها.
خامسّا: أنّ التمييزَ بين النصوص وعدَّ ما يكثر فيها قياسًا وما عداه ليس بقياس بل هو سماعٌ يحفظ ولا يقاس عليه - كما يقولون أحيانًا - هذا التمييزُ والتوزيع للنصوص، أراه غيرَ سليم، فإيجاد القاعدة المحكمة مطلقًا ليست هدفا لدارسي اللغة ومنهم النحوي، بل الهدف وصف اللغة بما هي عليه، وتحديد ما هو قليل وما هو كثير، وما عدا ذلك من جعل الكثير مقيسًا والقليل شاذًا أو غير ذلك من أحكام، هو في الحقيقة جور على النص وتحكيم للمنطق والقواعد ولفكرة التمييز بين النصوص التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه كلُّها من خارج اللغة ولا تصح في العمل اللغوي؛ إذ لا يجوز تجاوز مرحلة الاستقراء والوصف ولا بأس من التقعيد للتيسير واختصار الوصف، مع إبقاء هذه القواعد بعيدة عن الاحتكام إليها بالنسبة للنصوص الفصيحة لأجل استيعاب كلّ ما يمكن أن يلحظ في النصوص مما قد يصطدم بالقواعد المحكمة والمصنوعة صناعة عقلية بالغة الدقة، ذلك أنّ اللغة تستعصي على القيود حتى تلك اللغة التي حدّد لها الزمان والمكان والجماعة اللغوية.
والدليل على ذلك أنه عندما يتأمل نحويٌ نصوصها ويستزيد منها بتوسيع الاستقراء فيها فإنه يزلزل تلك القواعد، وقد يُظهر بعضَها قاصرة مما يحرج المقعّدين ويلجئهم إلى التأويل، ورد الأدلة أو الطعن فيها أو إنكار صحة الاستدلال بها، فليس من شأن القواعد أن تكون مقياسا صارما على النصّ، وليس من شأن النحاة أن يقحموها في هذا الخضمّ.
إن ضبط القواعد وإحكامها غير ممكن إلا على حساب النص الذي يلزم هدر كثير منه لتتحقّق لها الدقّة، ثم هي بعد ذلك لا تصلح في الغالب للّغة الحيّة المتحركة، ولا تصلح اللغة لها.
وعلى الرغم من هذا الاتجاه الذي لا مسوّغ له فإنّ عددًا لا يستهان به من النحاة لم يتعبدوا بقواعدهم، ولم يقفوا عندها بل كانوا يحاكمونها على ما يقعون عليه من سماع في إطار المنهج الذي ذكرت بعض ملامحه آنفًا، وهكذا سمحوا للناظر والمتأمل في النصوص أن يمضي غير مذموم أو ملام لعل الله يفتح عليه بما لم يمنّ به عليهم، فلم يحجّروا واسعًا أو يسدّوا طريقًا، ومع أنّ هذا اتجاه لا حاجة إليه؛ إذ لا يلزم أن تنطبق القواعد على كل النصوص إلا أن هؤلاء النحاة فتحوا للناس طريقا إلى النص ليقدّر ويحترم واضعين نصب أعينهم أن وضع القواعد شيء علميّ له أسسه وأهدافه، وأن تحكيم القواعد في النصوص لا حاجة إليه، وأن تحكيم النصوص في القواعد لا مسوّغ له، والصحيح أن هذا عمل من واد وذاك عمل من واد آخر، ولا يعيق أحدهما الآخر، فكلاهما درسان مقبولان ما داما في سياق غير سياق الجور على المتكلمين من الفصحاء أو من نسج على منوالهم، أو على النص.
وهذه الطريقة لهؤلاء القوم على ما فيها سنّة حميدة أتاحت للنحاة عبر العصور عرض القواعد على النصوص من القرآن والشعر واستزادوا بذلك من الشواهد القرآنية حتى ساوت أو زادت على شواهد الشعر عند كثير منهم، وعنوا في الوقت نفسه بالقراءات على نحو مّا، كما ظهرت العناية بما يحكى عن العرب من أمثال وأقوال، وزاد جماعة منهم فوق ذلك العناية بالحديث الشريف الذي أصبح مادة خصبة للبحث كما رأينا عند ابن مالك وغيره مّمن سبقه أو جاء بعده بقليل.
وهكذا كان النصّ والقواعد رقيبين كلٌّ منهما على الآخر واستمّرا كذلك ومازالا لكن وفق ذلك المنهج الذي يقتطف من النصوص اقتطافًا غير ناظر في نص أو مجموعة نصوص على أنها كتلة واحدة تُدْرَس لفظًا بعد لفظ وعبارة بعد عبارة درسًا وصفيًّا لا تشوبه شائبة الأحكام والتحكم والتضييق لما فيه سعة.
وهذا لا يعني أن القوم لم يوفّقوا ويسددوا في استقرائهم لمعظم الظواهر اللغوية؛ فالقواعد الكلّيّة الكبرى التي صنعوا لها سند ومدد ممّا هو كثير في كلام العرب وبخاصّة أنّ معظمها يكفي فيه استقراء ناقص كما هو الشأن في العلوم التجريبية، ولكن الأمر فيما يتصل بالقواعد الجزئية والأحكام الخاصة، في موضوع بعينه، فإنّه لا يكفي فيها الاستقراء الناقص بل تحتاج إلى استقراء تامّ، كما تحتاج إلى إدامة نظر في الأدلة فلعلّها تحتمل ما منعوه أو تمنع ما احتملوه. (للبحث صلة)
¥