والفتن مهمة في حياة الأمة. فلولاها ماعُرف الرجال من أشباههم، وما عُرف المنافقون مما سواهم، والصادقون في إيمانهم من الكاذبين. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِ ينَ مِن قَبْلِهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِ ينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكَذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3]. فالافتتان والاختبار والتمحيص محك صدق الإيمان في السابقين والصالحين. ثم إن الفتن هي التي تكشف عن معادن الرجال ديناً وخلقاً وثباتاً ووفاءً والتزاماً وحفظاً للعهد.
ومن هنا كان اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها بالغاً، وتعظيمه لشأنها في غير ماحديث ()، كوصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها تارة بقطع الليل المظلم، بحيث يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فينقلب في اليوم الواحد هذا الإنقلاب السريع، وما ذاك إلاّ لعظم شأن الفتن وشدة وقعها، وفرط سوادها وظلمتها، وعدم تبين الصلاح والفساد فيها.
* ونجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف الفتن تارة أخرى بأنها تقع كالظُّلل ـ () يعود الناس فيها أساود صُباً () يضرب بعضهم رقاب بعض.
وهذا تشبيه بليغ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث شبههم فيما يقولونه من الفتن والقتل والأذى بالصب من الحيات السوداء العظام التي إذا أرادت أن تنهش ارتفعت ثم انصبت على فريستها.
* والفتن إذا حلت بساحتها حلت عمياء صمّاء مطبقة، يصير الناس فيها ـ بلا عقول ـ كالأنعام، كما وصفها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما ذاك إلا لشدة هولها، وعظيم وقعها.
* كما شبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شدة الفتن وقوتها بتموُّج موج البحر وترادف بعضه فوق بعض.
* وأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الفتن من شدة هولها، وعظيم شأنها، تَعْوَجُّ فيها عقول الرجال وتذهب، وتموت منها قلوبهم كما تموت أبدانهم.
كل هذا وذاك يدل على بالغ أمر موضوع الفتن وأهميتها وبشاعة وقعها وعظم شأنها، وشدة هولها. ولذلك كانت عناية السلف بمعرفتها واضحة، واهتمامهم بذكرها ودراستها جلياً.
وهذا مما يؤكد ضرورة بث ماأخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ من الفتن الغابرة واللاحقة بين الناس، ونشر ماثبت من الأحاديث التي أخبر فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمارات الساعة وأشراطها، وحذَّر فيها من الفتن الواقعة قبلها، ليفيق الناس من سُباتهم، وينتبهوا من غفلتهم، ويعتبروا ويكونوا على أُهبة الاستعداد، والحذر التام، كي لاتباغتهم تلك الفتن، فتحول بينهم وبين التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
هذا وقد دعا العلماء إلى بث ونشر تلك الأحاديث المتعلقة بالفتن وأشراط الساعة بين فينة وأخرى في جِواء المسلمين وبين صفوفهم.
قال البَرْزَنْجي () ـ رحمه الله بعد أن ذكر أن الدنيا لم تُخلق للبقاء، وإنما جعلت للتزود منها للدار الآخرة، ودار القرار، وهي قد آذنت بالانصرام والتولي ـ:
(ولذا كان حقاً على كل عالم أن يشيع أشراطها، ويبث الأحاديث والأخبار الواردة فيها بين الأنام، ويسردها مرة بعد أخرى على العوام، فعسى أن ينتبهوا عن بعض الذنوب، ويلين منهم بعض القلوب، وينتبهوا من الغفلة، ويغتنموا المهلة قبل الوهلة ..... ) ().
وإن من سنن الله تعالى في خلقه ابتلاء هم وتعريضهم للفتنة، حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين.
فسنة الحياة الدنيا والبشر فيها، تجعل من المستحيل أن يخلو المرء فيها من فتن وكوارث تصيبه، ومحن وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل، أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن أو قريب، أو يُفقد منه مال، أو .... ، أو ..... ، إلى آخر مايفيض به نهر الحيا ة .... حتى قال الشاعر يصف الدنيا وما يعتريها من كوارث وفتن، وأكدار ومحن:
جُبلت على كدرٍ وأنت تُريدها صفواً من الآلام والأكدار!
ومُكَلِّفُ الأيام ضدّ طباعها مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوة نار
وقد افتُتن وابتُلي الماضون الأولون، كابراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ألقي في النار، وكقوم نُشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه، وكقوم موسى وفتنة فرعون لهم، وغيرهم من المؤمنين في غابر الأزمان.
¥