يقصد بالأسباب الحضارية انه كلما زاد تحضر المجتمعات وازدهرت العلوم فيها فإن الاهتمام بعلم الأنساب يزداد، والبحث في هذا الموضوع يزدهر نتيجة للازدهار العلمي الذي تزداد معه الدراسات والابحاث لكل مجالات الحياة بما فيها دراسة احوال السكان وتاريخهم، والتعمق في معرفة جذورهم وسلالاتهم وعلاقة الجماعات بما فيها الافراد والاسر والقبائل والطوائف ببعضها .. وهذا بخلاف ما يعتقد البعض من ان الحضارة تقضي على موضوع الاهتمام بالانساب.
والدليل على ذلك أن العرب في جاهليتهم مع ما هم عليه من شدة التعصب ومعرفتهم بأنسابهم ومحافظتهم عليها وتفاخرهم بها لم يؤلفوا الكتب في انسابهم ولم يتفننوا في رسم مشجرات العائلة والقبيلة ويضعونها على مداخل بيوتهم، كما هو الحال في عصرنا الحاضر، ومن أدلة ذلك ايضاً ان ازدهار التأليف في علم الانساب انما ظهر في عصور ازدهار الامة الإسلامية، فكثرت المؤلفات والمصنفات في العهد العباسي، ثم تراجع هذا الاهتمام في عصور الانحطاط، ثم عاد الاهتمام مرة ثانية في عصرنا الحاضر.
ونتيجة لانحطاط الامة الإسلامية وضعفها في القرن التاسع عشر في حين كانت اوروبا في اوج نهضتها العلمية فقد تخاذل المسلمون عن تحقيق ما خلفه اوائلهم من امهات كتب الانساب ليقوم الاوروبيون بتلك المهمة. والدليل أن معظم كتب الانساب المعروفة اليوم التي اصبحت مصادر لهذا العلم إنما ألفت في عصور تفوق الامة وقوتها، ومن ذلك على سبيل المثال:
جماهير القبائل، لمؤرج السدوسي «ت 195هـ».
نسب معد الكبير، لابن الكلبي، ت «204هـ».
انساب حمير وملوكها، لابن هشام «ت 213هـ».
الطبقات، لابن سعد «231هـ».
الجمهرة، لابن حزم «ت 456هـ» وغيرهم.
ولو استعرضنا كتاب طبقات النسابين للدكتور بكر ابو زيد لوجدنا أن اعداد النسابين كانت تأخذ شكل العلاقة الطردية مع وضع الأمة الإسلامية، ومن ذلك مثلاً:
إن عدد النسابين المترجم لهم بلغ 47 نسابة في القرن الاول، و 58 في القرن الثاني، و 82 في القرن الثالث، و 88 في الرابع، و 101 في الخامس، و 48 في السادس، و 46 في السابع، و 35 في الثامن، و 31 في التاسع، و 17 في العاشر. وهكذا يبدأ التنازل الى حد الانقطاع لمدة ثلاثة قرون تقريباً، ثم ينبعث مرة اخرى في العصر الحديث.
لكن عصر انحطاط المسلمين وتراجع الحركة العلمية في القرون الإسلامية المتأخرة لم يقف اثره على التراجع الواضح في الكتابة بهذا العلم بل تعدى ذلك إلى إهمال المؤلفات التي كتبت عبر القرون السابقة «11» وكان من نتيجة هذا الإهمال ان قام عدد من علماء الغرب في عصر نهضتهم الحديثة بدراسة ونشر امهات كتب التراث الإسلامي، ومنها كتب أنساب القبائل العربية «12».
اما في البلاد العربية فلم تبدأ العناية بهذا الجانب الا في القرن الرابع عشر الهجري «العشرين الميلادي» حيث ظهرت بعض المحاولات المحدودة لبعض الباحثين العرب لطباعة بعض كتب الانساب ونشرها امثال: سليمان الدخيل «ت سنة 1364هـ»، الذي قام سنة 1332هـ بطبع كتاب: «نهاية الارب في معرفة انساب العرب» للقلقشندي. وطبع كتاب: «سبائك الذهب» للبغدادي. والاستاذ احمد وصفي زكريا «ت1384هـ» الذي الف كتاب: «عشائر الشام»، وطبع سنة 1363هـ، كما قام الاستاذ رضا كحالة بتأليف كتاب: «معجم قبائل العرب»، وطبع بالشام سنة 1368هـ. ثم توالت بعد ذلك جهود نشر كتب الأنساب وتحقيقها في البلاد العربية، حيث ظهر اهتمام بعض الكتاب العرب بالتأليف في أنساب القبائل العربية، كما قام كل من الاستاذ محب الدين الخطيب سنة 1368هـ بطبع الجزء العاشر من كتاب «الإكليل». ثم العالم الاستاذ محمد شاكر الذي حقق كتاب: «جمهرة نسب قريش» للزبير بن بكار، وصدر سنة 1381هـ. وفي العراق الف الاستاذ عباس العزاوي كتاب «عشائر العراق»، وطبع سنة 1365هـ. وفي اليمن عُني العلامة محمد بن علي الأكوع بتحقيق كتاب «الإكليل» وطبع الجزء الاول سنة 1383هـ.
اما في البلاد السعودية فقد كان الشيخ حمد الجاسر هو الرائد في إحياء هذا العلم واستنهاض الهمم في التأليف والتحقيق فيه من خلال ما نشره في تحقيقات ومراجعات علمية لمخطوطات كتب الأنساب، وكذلك من خلال مؤلفاته الموسوعية مثل: «معجم قبائل المملكة» و «جمهرة انساب الاسر المتحضرة» وغيرهما.
ثالثاً: أسباب أخرى
¥