ويحكى عن ابن الخاضبة أبي محمد بن أحمد البغدادي الإمام القدوة مفيد بغداد المتوفي 489هـ بأنه لما كانت سنة الغرق وقعت داره على قماشه وكتبه ـ وكان فقيرا معدوما ـ ينسخ الكتب لينفق على والدته وزوجته وبناته، ولنتركه يقص علينا القصة: (أعرف أني كتبت صحيح مسلم في تلك السنة سبع مرات! فلما كانت ليلة من الليالي رأيت ـ في النوم ـ كأن القيامة قامت ومناد ينادي: أين ابن الخاضبة؟، فأحضرت فقيل لي: ادخل الجنة، فلما دخلت لباب وصرت من الداخل استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجليّ على الأخرى وقلت: استرحت والله من النسخ! (2)
وكان أبو جعفر أحمد بن عبدالرحمن القصري فقيها من أهل القيروان والمتوفي 321هـ له عناية بالعلم ورواية الحديث وجمع الكتب ونسخها وتصحيحها وكان يقول: لي أربعون سنة ما جف لي قلم ـ يعني من كثرة ما ينسخ بالليل والنهار ـ وكان ربما باع بعض ثيابه واشترى بثمنها كتبا أو رقوقا لنسخ كتاب. (3)
وقد بلغت مؤلفات الإمام الحافظ عمر بن علي بن أحمد الوادي آشي الشهيد بابن الملقن المتوفي 804هـ نحو ثلاثمائة مصنف، وكان عنده من الكتب مالا يدخل تحت الحصر، ثم إنها احترقت مع أكثر مسوداته في أواخر عمره، ففقد أكثرها وتغير حاله بعدها فحجبه ولده إلى أن مات، وكان قبل احتراق كتبه مستقيم الذهن، فقد أصيب بالإختلاط وذلك قبل موته بسبب إحتراق كتبه. (4)
وقد جمع إبراهيم الحربي العالم الزاهد والفقيه المحدث المتوفي 285هـ كتبا كثيرة وقال لابنته التي خافت الفقر: هناك اثناعشر ألف جزء لغة وغريب كتبتها بخطي إذا مت فوجهي كل يوم بجزء تبيعينه بدرهم، فمن كان عنده اثناعشر ألف درهم فليس هو بفقير!
وقال له رجل: كيف قويت على جمع هذه الكتب؟، فغضب إبراهيم الحربي وقال: قويت عليها بلحمي ودمي. (5)
ورغم ذلك عاش فقيرا يقتات شيئا يسيرا لكنه كان لا يدخر وسعا في سبيل اقتناء الكتب ونسخها بخطه وجمعها في بيته وقد تعلق بكتبه لشغفه بها وحبه لها فقد جمعها بلحمه ودمه.
.................................
(1) فتح المغيث للسخاوي 157
(2) تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1226
(3) الأعلام 1/ 206
(4) الضوء اللامع للسخاوي 6/ 105
(5) تاريخ بغداد 6/ 31
يتبع ـ بمشيئة الله ـ
ـ[أنوار]ــــــــ[15 - 04 - 2009, 06:52 ص]ـ
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ..
زاوية ماتعة بحق .. نترقب جديدها .. وفقتم لكل خير ..
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[15 - 04 - 2009, 08:41 ص]ـ
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ..
زاوية ماتعة بحق .. نترقب جديدها .. وفقتم لكل خير ..
هلا وغلا وألف مرحبا
وشكرا لك
وعلى الرحب والسعة
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[22 - 04 - 2009, 05:57 ص]ـ
(5)
الكتاب يحفظ العلم
ابن المبارك: لولا الكتاب ما حفظنا.
الشافعي: اعلموا رحمكم الله أن هذا العلم يندّ، كما تندّ الإبل، فاجعلوا الكتب له حماة والأقلام عليه رعاة.
أبو المليح الرقي: يعيبون علينا أن نكتب العلم وندونه وقد قال تعالى "علمها عند ربي في كتاب".
الخليل بن أحمد: ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبت شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئا إلا انتفعت به.
قال المبرد: نظر أعرابي إلى رجل وهو لا يسمع شيئا إلا كتبه، فقال: ما تترك نقارة إلا إنتقرتها، ولا نماصة إلا انتمصتها وإنك لملقفة الكلمة الشرود.
أحمد بن حنبل: حدثنا قوم من حفظهم وقوم من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن.
&&&&&&&
فضل الكتب وما قيل فيها:
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان تحته كنز لهما" قال: (صحف علم خبأها لهما أبوهما) الكهف 83
وعن ابن عباس: "وكان تحته كنز لهما" قال: (ماكان ذهبا ولا فضة، صحفا علما أو علم صحف)
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك الكنز فقال بعضهم: (كان صحفا فيها علم مدفونة) الطبري 16/ 5
قال الحسن بن صالح: (وأي كنز أفضل من العلم)
قال بعض الحكماء:
لن يصان العلم بمثل بذله، ولن تكافأ النعمة فيه بمثل نشره، وقراءة الكتب أبلغ في إرشاد المسترشد من ملاقاة واضعيها، وإذ كان مع التلاقي يقوي التصنع ويكثر التظالم وتفرط النصرة وتشتد الحمية، وعند المواجهة يملك حب الغلبة وشهوة المباهاة والرياسة، مع الإستحياء من الرجوع والأنفة والخضوع، وعن جميع ذلك يحدث التضاغن ويظهر التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصفة إمتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة، وليس في الكتب علة تمنع من درك البغية وإصابة الحجة، لأن المتوحد بقراءتها والمتفرد بعلم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله.
وقال أيضا:
والكتاب قد يفضل صاحبه ويرجع على واضعه بأمور منها: أن الكتاب يقرأبكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان، وموجود في كل زمان مع تفاوت الأعصار وبعد ما بين الأمصار، وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب والمنازع بالمسألة والجواب، وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره.
قال ذو الرّمّة لعيسى بن عمر:
اكتب شعي فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ، إن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشده الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاما بكلام.
ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة، فهي أكرم مال، وأنفس جمال، والكتاب آمن جليس، وأسر أنيس، وأسلم نديم، وأفصح كليم.
يتبع ـ بمشيئة الله ـ
¥