3 - اطِّلاعه الواسع على كثير من الكتب في شتى الموضوعات المعرفية آنذاك، وذلك بحكم عمله مدة طويلة من عمره ناسخًا للكتب، وهو عمل كثيرًا ما اشتكى منه التوحيدي في كتاباته.
وعلى الرغم من أن التوحيدي حاول جاهدًا أن يحسّن من أحواله عندما اتصل ببعض كبار رجال الدولة، من أمثال الوزير المهلَّبي، وابن العميد، والصاحب بن عَبَّاد وغيرهم، إلا أنه كان يعود كل مرة مخيّب الظن يندب حظه العاثر. ولا نبالغ إذا قلنا إن حياة التوحيدي كانت سلسلة من الإخفاقات والإحباطات المتتالية، تسبب التوحيدي نفسه في خلق أكثرها؛ فقد كان سوداوي المزاج مكتئبًا حزينًا مُتشائمًا حاقدًا على الآخرين، مغرمًا بثلب الكرام، كارها العامة من أهل زمانه، وحاسدًا الخاصة منهم. وكان، إلى جانب هذا كله، معتدًا بنفسه وبأدبه أشد الاعتداد، طموحًا إلى حد التهور، لذلك عاش أغلب عمره يعاني من صراع عنيف بين طموحه المفرط وبين واقعة المؤلم المليء بكل ألوان الفشل والحرمان. وقد أجبره هذا الصراع في نهاية الأمر على الاستسلام لليأس والارتماء في أحضان التصوف هربًا من واقعه المرير. ولعل حادثة إحراق التوحيدي لكتبه في أواخر حياته خير دليل على مدى تمكّن اليأس من نفسه، والزهد في أهل عصره.
وعلى الرغم من حادثة إحراقه الكتب هذه، وهي حادثة رمزية بطبيعة الحال قام بها التوحيدي احتجاجًا على مجتمعه، فقد ترك لنا التوحيدي مجموعة من الأعمال الأدبية والفلسفية والصوفية المتميّزة في تاريخ مكتبتنا العربية. ولعل من أهم أعماله: الإمتاع والمؤانسة؛ الصداقة والصديق؛ مثالب الوزيرين؛ الهوامل والشوامل؛ البصائر والذخائر؛ المقابسات؛ الإشارات الإلهية، وكلها محققة ومطبوعة.
أما من حيث الأسلوب الكتابي، فالتوحيدي لم يستسلم لأسلوب السجع والبديع الذي كان سائدًا في عصره بل كان في الغالب الأعم جاحظيَّ الأسلوب؛ يعتمد على الأزدواج والتعليل والتقسيم والسخرية والإطناب، ويولي المعنى في كتاباته عناية فائقة.
إذن فأبو حيان التوحيدي قد ولد في أسرة فقيرة معدمة , وأضيف إلي فقره , سوء طالعه , وقبح منظره , وحدة طبعه .. درس في بغداد , واختلي إلي مشاهيرها .. وفي عاصمة الخلافة أدركته حرفة التأليف والوراقة , فكان ينسخ للمتأدبين وذوي الجاه ما كان يصنف آنذاك من كتب .. لكن هذه الحرفة لم تدر عليه مالا يذكر , أو سمعة يتباهي بها , بل عكس ذلك أرهقته وزادته فقرا علي فقر .. فسعي , يائسا , إلي التقرب إلي ذوي النفوذ , ومنهم الوزير المهلبي , وابن العميد , والصاحب بن عباد. لكنهم أشاحوا بوجوهم عنه , وأنكروا عليه خصاله .. وحين لم ينفعه مدحه , ألف انتقاما منهم رسالة بعنوان مثالب الوزيرين يندب فيها حظه وحظ أمثاله من الأدباء , ويهجو فيها الوجهاء وأصحاب النعم .. غير أن الحظ ابتسم برهة من الزمن للتوحيدي , حين تقرب من الوزير البويهي ابن العارض , الذي اشتهر برعايته للأدباء وإكرامه لهم .. ومن مسامرته له خرج كتاب الإمتاع والمؤانسة.
إن المرارة التي عانى منها أبو حيان التوحيدي، والتي يصفها بهذه الكلمات التي تقطر مرارة وألما:
اضطررت في أوقات كثيرة إلي أكل الخضر في الصحراء وإلي التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة ..
وفي الحقيقة إن اعتراف التوحيدي يذهب إلي أبعد من العجز عن توفير القوت , فهو ينتقد نفسه ويعري أناه حين يقول إنه باع الدين والمروءة , وتعاطي الرياء بالسمعة والنفاق , واضطر إلي ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم إنها حالة تشبه حالة المتنبي في سعيه طلبا للمجد .. وهي حالة من جلد النفس , وتأنيب الضمير , والإحباط العارم , والسخط المرير , دفعت التوحيدي إلي الإقدام علي حرق كتبه.
ولم يثنه عن عزمه هذا طول السنين التي سلخها في تأليفها , ولا لوم صديقه ابن سهل , الذي حاول عبثا أن يصرفه عن هذه الفكرة المتسلطة .. تصوروا شخصا ناهز التسعين من العمر يضرم النار في كتب أنفق جل عمره في تأليفها؟ إنها مأساة ما بعدها مأساة!!!
ولعل التوحيدي بهذا الفعل , الذي أقدم عليه غير نادم , أراد أن ينتقم من الآخرين .. فهو يعترف , صراحة , بأنه يشق عليه أن يترك كتبه لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرض صاحبها إذا نظروا فيها .. ولعله , أيضا , أراد الانتقام من نفسه لما اكتشف , وهو يستعرض حياته السابقة , أنها كلها إخفاق ومذلة وهوان .. لكن لحسن الحظ , أن أبا حيان التوحيدي لم يحرق من كتبه , إلا ما صنفه في أواخر سنوات عمره .. ولحسن الحظ أن الوراقين والرواة حفظوا لنا بواكير أعماله .. وهكذا سلمت من ألسنة النار كتبه الأخري , مثل: الإمتاع والمؤانسة والمقابسات والصداقة والصديق ورسالة في العلوم , وبعض المخطوطات التي طالها بدورها الكثير من التصحيف والتحريف .. والعبرة من حرق أبي حيان كتبه عبر .. ولعل محنته , إلي جانب نكبة ابن رشد وعذاب الحلاج , ومأساة المتبني , قد تساعد المثقف العربي في الوقت الحاضر علي تخطي الكثير من المسائل التي تعذبه وتؤرقه , لو أنه تمعن الدرس واستوعب العبرة.
¥