(خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء.
إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع، وباقليُّ درب الحاجب، وسذاب درب الرواسين؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد - والله - بحّ الحلق، وتغير الخلق.
اللهَ اللهَ في أمري؛ اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهّرني فإنني غُفْل، حَلّني فإنني عاطل.
قد أذلني السفر من بلدٍ إلى بلد، وخذلني الوقوف على بابٍ باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني.
أغرك مسكويه حين قال لك: قد لقيت أبا حيان، وقد أخرجته مع صاحب البريد إلى قرميسين؟! والله ثم وحياتك التي هي حياتي، ما انقلبت من ذلك بنفقة شهر، والله نظر لي بالعود، فإن الأراجيف اتصلت، والأرض اقشعرت، والنفوس استوحشت، وتشبه كل ثعلبٍ بأسد، وفتل كل إنسانٍ لعدوه حبلاً من مسد.
أيها الكريم، ارحم؛ والله ما يكفيني ما يصل إلي في كل شهرٍ من هذا الرزق المقتر الذي يرجع بعد التقتير والتيسير إلى أربعين درهماً مع هذه المئونة الغليظة، والسفر الشاق، والأبواب المحجبة، والوجوه المقطبة، والأيدي المسمرة، والنفوس الضيقة، والأخلاق الدنيئة.
أيها السيد، أقصر تأميلي، ارع ذمام الملح بيني وبينك، وتذكر العهد في صحبتي، طالب نفسك بما يقطع حجتي، دعني من التعليل الذي لا مرد له، والتسويف الذي لا آخر معه.
ذكر الوزير أمري، وكرر على أذنه ذكري، وأمل عليه سورةً من شكري، وابعثه على الإحسان إلي.
افتح عليه باباً يغري الراغب في اصطناع المعروف لا يستغني عن المرغب، والفاعل للخير لا يستوحش من الباعث عليه.
أنفق جاهك فإنه بحمد الله عريض، وإذا جدت بالمال فجد أيضاً بالجاه، فإنهما أخوان.
سرحني رسولاً إلى صاحب البطائح أو إلى أبي السؤل الكردي أو إلى غيره ممن هو في الجبال، هذا إن لم تؤهلني برسالةٍ إلى سعدٍ المعالمي بأطراف الشام، وإلى البصرة، فإني أبلغ في تحمل ما أحمل، وأداء ما أؤدي؛ وتزيين ما أزين، حداً أملك به الحمد، وأعرف فيه بالنصيحة وأستوفي فيه على الغاية. دع هذا، ودع لي ألف درهم، فإني اتخذ رأس مال، وأشارك بقال المحلة في درب الحاجب، ولا أقل من ذا، تقدم إلى كسج البقال حتى يستعين بي لأبيع الدفاتر. قلت: الوزير مشغول. فما أصنع به إذا فرغ، فالشاعر يقول:
تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
قد والله نسيت صدر هذا البيت، وما بال غيري ينوله ويموله مع شغله وأحرم أنا؟! أنا كما قال الشاعر:
وبرقٌ أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رجلي منه أسود مظلم
والله إن الوزير مع أشغاله المتصلة، وأثقاله الباهظة، وفكره المفضوض ورأيه المشترك، لكريمٌ ماجد، ومفضلٌ محسن، يرعى القليل من الحرمة، ويعطي الجزيل من النعمة، ويحافظ على اليسير من الذمام، ويتقبل مذاهب الكرام، ويتلذذ بالثناء إذا سمع، ويتعرض للشكر من كل منتجع، ويزرع الخير، ويحصد الأجر، ويواظب على كسب المجد، ويثابر على اجتلاب الحمد، وينخدع للسائل، ويتهلل في وجه الآمل، ولا يتبوأ من الفضائل إلا في ذراها، رحيم بكل غادٍ ورائح، ولكل صالحٍ وطالح.
وأنا الجار القديم، والعبد الشاكر، والصاحب المخبور، ولكنك مقبلٌ كالمعرض، ومقدمٌ كالمؤخر، وموقدٌ كالمخمد، تدنيني إلى حظي بشمالك، وتجذبني عن نيله بيمينك، وتغذيني بوعدٍ كالعسل، وتعشيني بيأس كالحنظل، ومن عتبه علي مظنة عيبك، فليس ينبغي أن يكون تقصيره على تيقنه بنصرك.
نعم؛ عتبت فأوجعت، وعرفت البراءة فهلا نفعت؟ والله ما أدري ما أقول، إن شكرتك على ظاهرك الصحيح لذعتك لباطنك السقيم، وإن حمدتك على أولك الجميل، أفسدت لآخرك الذي ليس بجميل.
قد أطلت، ولكن ما شفيت، ونهلت وعللت، ولكن ما رويت.
وآخر ما أقول: افعل ما ترى، واصنع ما تستحسن، وابلغ ما تهوى، فليس والله منك بد، ولا عنك غنىً.
والصبر عليك أهون من الصبر عنك، لأن الصبر عنك مقرونٌ باليأس، والصبر عليك ربما يؤدي إلى رفع هذا الوسواس، والسلام لأهل السلام).
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[23 - 04 - 2009, 10:16 ص]ـ
شكرا لأخي الحبيب الأديب الأستاذ عبدالعزيز بن حمد العمار
هذه المشاركة اللطيفة، وهذه المداخلة الظريفة
جزاك الله خيرا أيها الفاضل الكريم