تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم يجري حديث مطول بين الرجلين، يطلب بعده الحارث من العجوز أن يخلد له اسمه بالشعر، فيضطر العجوز أن يقول فيه قصيدة من ثمانية عشر بيتاً.

إننا نجد من هذا العرض الموجز أن هذه المقامة تختلف عن مقامات الحريري من حيث الشكل، فهي أطول ومن حيث مادتها أيضاً؛ إذ هي لا تعالج حكاية واحدة خاصة فحسب، بل تحكي سلسلة من الأحداث يرتبط بعضُها ببعض من خلال شخصية البطل، العجوز.

وهي أشبه بعدة مقامات منفصلة تتضمن سلسلة من المعالم، كصورة الريف والفلاحين، وبيوتهم، وصورة الجمهور وكرمه، وصورة الحانة واللقاء الأخير بين الشيخ والحارث.

ومن الواضح أن غاية ابن أبي الخصال كانت إظهار براعته الفنية الفائقة في التصوير الكلامي بجمعه مقامات عديدة في مقامة واحدة. ومن الجدير بالذكر أن ابن أبي الخصال قد قام بمحاولة أخرى في ميدان الكتابة بأسلوب المقامات، وإن لم يكن مديناً للحريري فيها بالقدر الذي كان في المقامة السابقة. وأشير بذلك إلى عمله الرائد في ذلك النمط من الرسائل الأدبية التي كتبها الأندلسيون عن طائر الزرزور. وكانت المقالات من هذا النوع تتسم بأسلوب المواعظ في أنها تُفتتح بالصلوات والأدعية والبركات، ثم تنتقل إلى وصف الزرزور وتعداد مآثره.

ثم يقول الزرزور قصيدة في موضوع الكرم واللطف مزكياً التصميم على ممارستها.

وكان ابن أبي الخصال يستخدم الزرزور ناطقاً باسمه ينبئ عن طريقة مستمعيه عن توبته ليكسب عطفهم ومالهم. والواقع أنه كان يقوم بدور بطل المقامة الذي يمزج الشعر بالنثر ليعرض خبرته وتفوقه في كلا النوعين. ولقد قام ابن أبي الخصال بمحاولتين في هذا اللون من الأدب، الأولى موجودة في "ورقة 2 آ- 4 ب" من الاسكوريال المذكورة في أعلاه. ويتضمن هذا العمل قصيدتين الأولى من ستة أبيات والثانية من سبعة عشر. أما محاولته الثانية فهي موجودة يف "ورقة 68 آ – 71آ" وتتضمن أربع قصائد، الأولى من ثلاثة عشرة بيتاً، والثانية من عشرة، والثالثة من أربعة عشر بيتاً، والرابعة من تسعة عشر.

المقامة القرطبية:

إن هذه المقامة، التي عرفت بهذا الاسم عند الأندلسيين الذين عزوها إلى الفتح بن خاقان، تُشتهر بالفيلسوف العلاّمة والأديب ابن السيد البطليوسي وتقذف به. إلا أننا لا نستطيع الجزم بنسبة هذه المقامة إلى ابن خاقان الذي عرف عنه أنه كتب سيرة مرموقة في مدح ابن السيد. ويوجد نص هذه المقامة القرطبية في الاسكوريال (مخطوطة) 488 (ورقة 80ب-83ب). وتتخذ حبكتها شكل رحلة قام بها البطل علي بن هشام من أرض الشام إلى الأندلس ليكتشف الوضع الأدبي فيها. وتبدأ المقامة بالكلمات التالية:

"قال علي بن هشام: انطلقت من بلاد الشام إلى الأندلس لأجوب أقاليمها وأدرس البلدان وألتقي الأدباء والفقهاء وأتجنب أهل الخيال والريب". (11) (ورقة 80 ب). ثم ينتقل إلى وصف رحلته ونزوله في بلنسية، ويصف الأرض وأهلها وصفاً مفصلاً (ورقة 81آ).

ثم يأتي إلى صلب موضوع رحلته وهو السؤال عن البطليوسي ليتمكن من مهاجمته وشتمه، والتقى أثناء استفساراته عن البطليوسي "بفتى له لألاء ورواء، عمامته بين الرجال لواء، فرعه أفرع وجيده أتلع، وأنفه ممطول وخلقه مجدول ... " ومع الفتى رفيق له يدعى ابن الطويل وآخر هو يوسف بن خليل وقعد إليهما فتناشدوا الأشعار. ثم سألهما ابن هشام عن البطليوسي فانبرى أحدهما للقذف بحقه والتشهير به، وانضم إليه الآخر واصفين أفعال البطليوسي الشريرة وكاشفين جهله بالعلم والأدب "يأتي المناكر في كل ناد ويهيم في العمه في كل واد لا يرجى له إرعواء ولا يأسو جرحه دواء" (ورقة 83 ب).

وتعرف لنا المقامة صورة مفصلة لحياة البطليوسي وخصوصاً حياته في بلنسية التي لجأ إليها بعد أن ورط نفسه عاطفياً مع ثلاثة شباب هم أبناء مواطنين قرطبيين متنفذين؛ كما ترسم لنا صورة مقنعة لجانب الحياة المظلم في ذلك الزمن، وهو الجانب الذي مر ذكره في مصادر أندلسية أخرى مروراً متعجلاً. لقد أثارت هذه المقامة فتنة كبيرة في الحياة الأدبية بالأندلس بسبب المركز المرموق الذي كان يحتله البطليوسي. ومن الواضح أن كثيراً من أدباء الأندلس قد استاؤوا استياء عميقاً وهبوا للرد على كاتب هذه المقامة. وكان أول من انتصر للبطليوسي الوزير العلامة أبو جعفر بن أحمد الذي كتب رسالة عنوانها "الانتصار في الرد على صاحب المقامة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير