خيَّمَ صمتٌ كئيبٌ على المكانِ , وتخيّلتُ أنَّّهم يتبادلونَ نظراتِ التشاورِ فيما بينهمْ وتوقعّتُ أن أتلقّى صفعةً جديدةً أو رفسةً مِنْ حذاءِ أحدِهمْ .. وانقشعَ الظلامُ عندما أزالَ أحدُهمْ العصابةَ عَنْ عينيَّ بينما راحَ آخرُ يفكُّ الأصفادَ.
نظرتُ إلى وجوهِهِم الشرّيرةِ وعيونهِمِ الحاقدةِ وتجوّلتُ بناظريَّ في أرجاءِ الغرفةِ ووجدتُ نفسيَ أحدّقُ بالضابطِ الجالسِ على كرسيٍّ دوَّارٍ خلفَ مكتبٍ منْ خشبِ يافا المنجورِ .. كانَ يضعُ قدميهِ فوقَ زجاجِ المكتبِ ليلامسَ حذاؤُهُ العلمَ الإسرائيليَّ المتوضعَ هناكَ على قاعدةٍ معدنيّةٍ صغيرةٍ وإلى جانبهِ لوحةٌ صغيرةٌ كُتِبَ عليها بالعبريّةِ (الملازم رفائيل مزراحي) .. إنَّهُ المحقّقُ! عرفتُ صوتَهُ حالما نطقَ:
- " ها قَدْ لبَّيْنا لكَ أمنيَتَكَ! ماذا الآنَ؟ "
- " مِنْ خلالِ أسئلتِكَ عرفتُ غايتَكَ! وسأُخبرُكَ الآنَ بكلِّ شيءٍ , ولكنْ إِنْ أرادَ هذا الجلاّدُ صفعي فعليهِ أَنْ يجمّعَ صفعاتِهِ ريثما أُنهي كلاميَ وينفّذَ ذلكَ دفعةً واحدةً! اتفقّنا؟ "
- " حسناً .. لكَ ذلكَ. "
- " ولدتُ هنا في نابلس , وتفتّحتْ عينايَ في هذهِ الأرضِ على مشاهدةِ جنودِكمْ يدمّرونَ قرانا ويجرفونَ أشجارَنا , ورأيتُ دبّاباتِكمْ تقتحمُ منازلَنا وتهرسُ أغراضَنا وتسحقُ ُكتبَنا ودفاترَنا وحقائبَنا المدرسيَّةَ .. وكنتُ في الصفِّ الأوّلِ عندما دخلَ جلاّدوكم إلى صفّنا وسرقوا معلّمَنا وهو يحملُ الطبشورةَ في يدِهِ حتّى بعدَ أنْ كبَّلوهُ وأهانوهُ أمامَ ذعرِنا! وشهدتُ بأم عينيَّ دخولَ عصابةٍ منكمْ ليلاً إلى بيتِنا لتحطّمَ كلَّ محتوياتِهِ وتطلقَ النارَ على والدِي أمامَ أعينِنا .. وشاهدتُ كيفَ سِيقَ أخي كرم إلى سيَّارةِ الدوريَّةِ جرّاً مِنْ قدمَيْهِ ..
هلْ تعتقدُ أيُّها الملازمُ أنَّني أحلمُ بثيابٍ جديدةٍ وبحلوى وفاكهةٍ؟ هلْ هذا ما دفعَكَ لتعرضَ عليَّ نقوداً؟ نحنُ هنا لا نملكُ أحلاماً كالتي تراودُ أطفالَ العالمِ! لقدْ حطَّمتمْ طفولَتنا وصادرتُمُ الفرحةَ منْ أحلامِنا حتَى بِتْنا لا نحلمُ بالأراجيحِ في ليالي العيدِ بَلْ بإنهاءِ عذابِنا وبؤسِنا واستعادةِ حقّنا في الحياةِ الكريمةِ وإعادةِ الخضرةِ إلى أشجارِ الزيتونِ الباكيةِ , ولنْ يكونَ لنا ذلكَ إِلاّ في مقاومتِكُمْ!
نرشقُ سيّاراتِكم بالحجارةِ , ليسَ أملاً في تحطيمها لأنّنا نعلمُ مدى تصفيحِها , بلْ لنعبّرَ عن إرادتِنا في رفضِكُمْ ..
- " كلُّ هذا الهراءِ ولم تعطِنِي بعدُ اسمَ رئيسِ العصابةِ التي تنتمي إليها! هيَّا .. هلْ سَتُخِلُّ بالاتفاقِ؟! "
- " لا .. ليسَ هذا مِنْ شِيَمِ العربِ! إنَّ المخرّبَ الإرهابيَّ الكبيرَ الذي حرَّضني على رشقِ دوريَّتِكمْ بالحجارةِ يُدعى رفائيل مزراحي."
ولم أكدْ ألفظُ الاسمَ حتَّى هجمَ الجلاّدونَ دفعةً واحدةً يصبُّونَ جامَ غضبِهِمْ عليَّ ويوسعونني ضرباً مبرّحا .. ً وينطفئُ نورُ الغرفةِ ليشرقَ وجهُ أُمّيَ الملائكيُّ فأستيقظُ على نغْماتِ صوتِها القيثاريِّ وأدركُ أنّني كنتُ في حُلُمٍ طويلٍ:
- " ما بكَ يا رعدُ؟ هلْ كنتَ في حلمٍ؟ منذ مدّةٍ وأنا أحاولُ إيقاظَكَ! هيّا .. ستتأخرُ! "
- " لنْ أذهبَ إلى المدرسةِ اليومَ يا أُمّي! "
- " ماذا؟ هلْ أنتَ مريضٌ؟ هلْ نسيتَ كتابةَ وظاِئفِكَ؟ "
- " لا هذا ولا ذاكَ! بلْ سأتوجَّهُ إلى الاشتباكاتِ. "
- " ماذا؟ هلْ تريدُ الانضمامَ إلى أخيكَ في السجنِ؟ "
- " بلْ أريدُ الانضمامَ إلى شعبي , أريدُ قذفَ الدوريَّاتِ بالحجارةِ , أريدُهمْ أَنْ يعلموا أنَّنا لا نستسلمُ .. باركيني يا أُمّاهُ .. باركيني .. "
- " وفَّقكُمُ اللهُ ونصرَكُمْ. "
ـ[السراج]ــــــــ[12 - 05 - 2009, 09:13 ص]ـ
شكرا لك ..
لنا عودة بعد القراءة ..
ـ[مروان مكارم]ــــــــ[14 - 05 - 2009, 02:49 م]ـ
مرحباً بك أيها السراج .. و شكراً لاهتمامك ..
و أعتز بسماع (أو قراءة) أراء أصدقائي القرّاء ..
ـ[السراج]ــــــــ[15 - 05 - 2009, 07:25 ص]ـ
شكرا لكما ..
أخي مروان ..
ذكرتني بدرس في الصف العاشر في السلطنة - في المنهج السابق - اسمه (في الطريق إلى برك سليمان)، حتى أني نسيتُ اسم مؤلف القصة.
قصتك أخي مروان للتعليم ولتوجيه الأبناء إلى هذه القيم الخالدة التي نشأنا عليها، وأدعوك إلى طرق هذه الموضوعات في قصص تعليمية أكثر، فقد نحتاجها لبعض المناهج ..
شكرا لك ..
ـ[مروان مكارم]ــــــــ[16 - 05 - 2009, 01:55 ص]ـ
شكراً لك أخي (السراج) ..
كلماتك كانت سراجاً منيراً لا ينطفيء ..
وحقّاً كانت غايتي النهوض بالمباديء التي نهل جيلنا من عذب مائها سلسبيلاً فراتاً .. وإنعاش القيم الخالدة التي يحاول أعداؤنا إجهاضها .. يسعدني أن أسمع منك المزيد حول (رسالة إلى أمي) و (قلتُ وقالَ)
والسلام عليكم ورحمة الله ..
¥