18 - وحلت سواد القلب لا أنا باغيا= سواها ولا عن حبها متراخيا
19 - ولا دام منها وصلها ما قليتها= ولكن كفى بالهجر للحب شافيا
20 - وما رابها من ريبة غير أنها= رأت لمتي شابت وشابت لداتيا (9)
يصف الشاعر هجر حبيبته له بسبب الشيب الذي ألم به، وهنا يكون الترابط بين الوحدة السابقة (البيت الثالث عشر) وهذه الوحدة ترابطا منطقيا انطلاقا من حقائق بسيطة يشير لها همفري، وهي أن الذهن لا يمكن لحركاته أن تركز على شئ واحد ولفترة طويلة، وعند بذل محاولة كهذه فأن بؤرتها تستقر على شئ واحد، ولكن للحظات، فيوحي شئ بشئ آخر من خلال تداعي الصفات المشتركة أو الصفات المتناقضة على نحو كلي أو جزئي (10).
أن تداعي الصفات المتناقضة التي أشار لها همفري تجسدت في العلاقة بين الوحدة الأولى [1 - 5] والوحدة الثانية من [6 - 12]؛ إذ أن خلو الدار من الساكنين أحال إلى امتلائها بهم.
وتجسد تداعي الصفات المشتركة في العلاقة بين الوحدة الثالثة (البيت الثالث عشر) والوحدة الرابعة (14 - 20)، ان ذكر الموت (شعوب) أحال إلى صورة الشيب (الطريق إلى الموت).
غير ان هناك ترابطا آخر بين وحدات النص تجسده التحولات الانفعالية فيه، لقد كانت صورة المطر الغزير وطير القواري (الذي يتفاءل العربي به عند اقترانه بالمطر) تمهيدا لصورة السعادة المتحققة من تصوير مجالس القوم ولهوهم وفرحهم.
وقد جاء اختيار مفردات معينة تنتمي إلى حقل الموت في البيت الثالث عشر " غالت " و " شعوب " و" تبكي " و " جوالي " و " تلول " المتضمن دلالة الإعياء، إن اختيار هذه المفردات اسهم بفاعلية في هيمنة أجواء الحزن ومهد الطريق للتحول من أجواء الحياة التي جسدتها الوحدة الثانية إلى أجواء الموت من خلال رسم صورة حزينة لشيب البطل وهجر حبيبته له.
يعود النص في الوحدة الخامسة إلى مستوى السرد التابع (الذي اعتبر مستوى السرد في زمن الصفر) لكن خلال ذلك: يتحقق استرجاع اعتراضي جزئي يتمثل بالبيت 23 - تدل عليه عبارة " ومن قبله " وسرعان ما يقطع الاسترجاع ويعود النص إلى المستوى السابق:
21 - تلوم على هُلك البعير ظعينتي= وكنت على لوم العواذل زاريا
22 - ألم تعلمي أنى رزئت محاربا= فمالك منه اليوم شيء و لاليا
23 - ومن قبله ما قد رزئت بوحوحٍ= وكان ابن أمي والخليل المصافيا
24 - فتى كملت أخلاقه غير أنه= جواد فما يبقي من المال باقيا
25 - فتى تم فيه ما يسر صديقه= على أن فيه ما يسوء الأعاديا
26 - يقول لمن يلحاه في بذل ماله= أأنفق أيامي وأترك ماليا
27 - يدر العروق بالسنان ويشتري= من الحمد ما يبقى وإن كان غاليا
28 - أشم طويل الساعدين سميدع= إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا
29 - أتيحت له والغم يحتضن الفتى= ومن حاجة الإنسان ما ليس لاقيا (11)
يتجسد الموت في هذه الوحدة ثلاث مرات موت البعير وموت الابن المحارب وموت الأخ وحوح، وهنا تتكشف المبررات الفنية والنفسية لوجود الوحدتين السابقتين [الأبيات 13 - 20].
يقسم النقاد الأقدمون القصيدة إلى مقدمة وغرض، لقد شكلت الأبيات العشرون مقدمة القصيدة، أما غرضها وهو الرثاء فقد تحقق في الأبيات اللاحقة، على ضوء هذا التقسيم تُقسَّم مرجعيات النص على مرجعيتين: مرجعية المقدمة وهي مرجعية متخيلة ومرجعية الغرض وهي مرجعية واقعية، أي لها وجودها التاريخي الفعلي، خلافا للأولى التي لا وجود لها على مستوى الواقع التاريخي، وإنما فرضت وجودها تقاليد القصيدة العربية، لقد طوعت المرجعية المتخيلة لخدمة المرجعية التاريخية لتعميق الانفعال، هكذا تحقق الانسجام والتجانس الفني بين أجزاء النص من خلال وحدة الأجواء النفسية المهيمنة.
وتأتي الوحدة السادسة محققة استرجاعا آخر يشير إلى هزيمة الأعداء في معركة أسماها يوم النخيل:
31 - ويوم النخيل إذ أتين نساءكم= حواسر يركضن الجمال المذاكيا
32 - ويوم شديد غير ذي متنفس= أصم على من كان يحسب راقيا
33 - كأن زفير القوم من خوف شرّهِ= وقد بلغت منه النفوس التراقيا
34 - زفير متمّ بالمشيّأ طرُّقت= بكاهله فلا يريم الملاقيا (12)
¥