يؤدي هذا الاسترجاع وظيفة نفسية وفنية فبعد ان أسهمت الأبيات [24 - 29] في وصف محاسن الفقيد فبلغ الحزن أقصى مداه، جاء الاسترجاع تنفيسا عن هذا الحزن الشديد باستذكار موقف مفرح وتلك هي الوظيفة النفسية أما الوظيفة الفنية فهي خلق إيقاع سردي من خلال توالي مواقف التعاسة والسعادة.
وتأتي الوحدة السابعة: استشرافا يبشر بمقتل الأعداء وانتصار البطل، والاستشراف هو سرد استطلاعي يتواجد بصيغة المستقبل (13)، وتتمثل الوحدة السابعة في الأبيات:
35 - سنورثكم ان التراث اليكمُ= حبيب قرارات النجا فالمغاليا
36 - وماء من الافلاج مرا وغدة= وذئبا اذا ما جنه الليل عاديا
37 - واطواءنا من بطن اكمة انكم= جشمتم الى اربابهن الدواهيا (14)
وتأتي الوحدة الثامنة عودا إلى زمن السرد التابع يلوم خلالها قومه على ضعفهم وتفككهم ويختم الوحدة بمدح مالك بن صعدة:
38 - ولو ان قومي لم تخني جدودهم= واحلامهم اصبحت للفتق آسيا
39 - ولكن قومي اصبحوا مثل خيبر= بها داؤها ولا تضر الاعاديا
40 - فلا تنتهي اضغان قومي بينهم= وسواتهم حتى يصيروا مواليا
41 - موالي حلف لا موالي قرابة= ولكن قطينا يسالون الاتاويا
42 - فلم اجد الاخوان الا صحابة= ولم اجد الاهلين الا مثاويا
43 - وكانت قشير شامتا بصديقها= وآخر مزريا عليها وزاريا
44 - ولكن اخو العلياء والجود مالك= اقام على عهد النوى والتصافيا (15)
* * *
بعد هذا التحليل السياقي لا بد من التوقف قليلا أمام لفظة تضمنها البيت الثالث، انها لفظة " قواريا " وهي طير تتيمن به العرب وتتشاءم منه في آن واحد (16)، إن هذه المفردة قد شكلت مصدر إضاءة مهمة للنص فهو يجمع بين التفاؤل والتشاؤم وبين السعادة والتعاسة، وبين الموت والحياة في آن واحد، ويأتي هذا التشكيل مرتبطا بالمفارقات الزمنية التي منحت النص إيقاعا خاصا، كما يرتبط بدوره بين المرجعية التخيلية والمرجعية التاريخية، و الجدول الآتي يكشف عن هذه العلاقات: -
جدول
يبين التقابل بين المرجعية التخيلية والمرجعية التاريخية من حيث وحداتها الزمنية وسعة كل وحدة ودلالتها النفسية وصنفها السردي
- مقياس السعة هو عدد الأبيات
يقود تأمل الجدول السابق إلى الملاحظات الآتية:-
1. ينقسم النص إلى قسمين متقاربين في السعة.
أ - القسم المعبر عن المرجعية المتخيلة هو مقدمة القصيدة، ويتكون من أربعين بيتا.
ب - القسم المعبر عن المرجعية التاريخية وهو غرض القصيدة تكون من 44 بيتا.
2. يتكون النص من ثماني وحدات زمنية: الأربعة الأولى تكون القسم (ا) والأربعة الثانية تكون القسم (ب).
3. تتوالى الوحدات الزمنية على وفق تعاقب مطرد بين السرد التابع والمفارقة الزمنية، ولا يكسر هذا التعاقب إلا نهاية القصيدة، حيث يتأخر السرد التابع وتتقدم المفارقة الزمنية متمثلة بالأبيات (35 - 37) وأغلب الظن أن هذا الاطراد لم يُكسر، وإن هناك وحدة زمنية مفقودة إذ ان هناك أبياتا مفقودة بين البيت 34 والبيت 35، وقد نبّه محقق شعر النابغة الجعدي على هذا الفقدان بوضع سلسلة نقاط بين البيتين المذكورين (17)، يحقق هذا التعاقب المطرد إيقاعا زمانيا ثابتا على امتداد القصيدة غير أن الإيقاع الثابت يولد الرتابة، لكن ما يكسرها هو اختلاف السعة بين الوحدات، فسعتها تتراوح بين البيت الواحد و عشرة الأبيات.
4. يقسم النص من حيث دلالته النفسية على ثلاثة أنواع من الوحدات:
أ- وحدات تتضمن السعادة.
ب- وحدات تتضمن التعاسة.
ج- وحدات تختلط فيها السعادة والتعاسة.
5. كان معيار تحديد التعاسة والسعادة على الشكل التالي:-
- في الوحدات الأولى: خلو الدار من الساكنين مظهر للتعاسة وهطول المطر عليها مظهر للسعادة.
- في الوحدة الثانية: امتلاء الدار بالساكنين وملامح الحياة بالحركة والمرح مظاهر السعادة.
- في الوحدة الثالثة: انتماء المفردات إلى حقل دلالي يمثل الموت مظهر للتعاسة كما مر بنا قبل قليل.
- في الوحدة الرابعة: عالم الشيب وفراق الحبيب مظهر للتعاسة.
- في الوحدة الخامسة: الموت مظهر للتعاسة.
¥