تمهيدٌ في النَّقد
ـ[ناصر الكاتب]ــــــــ[28 - 10 - 2004, 11:12 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيدٌ في النَّقد
أحمد بن محمد الشامي
نقدُ الكلام في اللغة؛ معرفةُ جيّده من رديئه، وذكر محاسنه أو عيوبه؛ سواء كان شعراً أو نثراً، وله أصولٌ معتبرة طالما تحدَّث عنها المتقدّمون والمتأخرون في كُتبهم ورسائلهم، ومقالاتهم؛ وقد قسَّموه أنواعاً؛ فمنها ما يرجع إلى المعاني، ومنها ما يتعلق بالصّور الذهنيّة، والخيالات الشعريّة، ومنها ما يعود إلى الأوزان والمقاطع، ومنها ما يعود إلى ائتلاف بعض ذلك ببعض؛ وإذا كان المتقدّمون قد أبدعوا وأجادوا في نقد الألفاظ وتعلّقها بمعانيها، والأوزان، والقوافي، والقوافي والأسجاع، وائتلاف بعضها ببعض، وألفوا في ذلك الكتب المطوّلة والموجزة حَسَب معارفهم وقُدراتهم اللّغوية والبيانيَّة؛ فإنَّ المتأخرين قد تفنَّنوا، وتوسَّعوا في نقد الصور الذهنيَّة والدوافع الوجدانيَّة، ونقدوا النثر الفنيّ، والشِّعْر على مختلف أشكاله كفنّ من الفنون الجميلة.
وما كلّ ذِي ملَكَةٍ بيانيَّة يستطيع أنْ يكون «ناقداً» ولا سيَّما إذا كان المنقود «شعراً»؛ فهناك شروطٌ لا بدّ من توفّرها في «ناقدِ الشعر» وبحسبِ قوّتِها، أَو ضعفِها فيه تكونُ قوة «النقد» وضعفِه؛ «فالناقد» يجب أَنْ يكونَ واسعَ الاطّلاع، قويّ العارضة، ثاقب الذهن، بصيراً بأساليب البيان، فيلسوفاً شاعراً، مُتَبحّراً في علوم اللغة وآدابها؛ فإن عَرِيَ عن بعضِ هذه الشروط جاء نقدُهُ –إنْ تجرَّأ على النَّقد- وليسَ إلاّ موضوعاً إنشائياً؛ استوحاه من قصيدة شاعر، أو أدارَهُ على مقالة كاتب؛ واقفاً هنا وقفة استحسان، وهناك وقفة استهجان؛ مقتنعاً بالحديثِ عن الأشكال الظاهرة غير متعمّق إلى ما وراءها من صورٍ ذهنيَّة، ودوافع وجدانيَّة وملابسات نفسيَّة؛ كان لها أعظم الأثر في إبداع شعر الشاعر أو مقالة الكاتب البياني وما أبرع وأحكم الذي اشترط في «ناقد الشعر» أن يكون شاعراً؛ لأنَّ خوالج نفس «الشاعر» أكبر من أن تحدّها الكلمات؛ وإنَّه ليحسَّ بها في «ساعاته الشعريَّة» كغَشْيَةِ الوحي، وقد ركدت بشريَّتُه، وتحوَّل روحاً يطير في سماوات رائعة؛ وهنا الفرق بين القوي والضعيف؛ والمحلّق والعاثر، وبين مَنْ يجيد التعبير عن بعض تلك المعاني بِحَسَبِ ثَرْوَتِهِ اللّغويَّة؛ وبين مَنْ يتلَعْثَمُ ويقِفُ دون ما يرده الفن والجمال الشعري؛ لأنه محدود القدرة لغةً، واطّلاعاً، وذوقاً .... فإذا كان «ناقد الشّعر» شاعراً واسعَ الاطّلاع، مُتمكِّناً من آداب لغتِه، قويّ النَّفس، استطاع أن يتصوَّر الجوَّ الخاص الذي أحاطَ بالشاعر المنقود، وتمثَّل تلك «الغشية» السَّماويَّة، وعرض له ما عرض لصاحبه من قبله، وبذلك يَفْهَم تفوّقَه من قُصورِهِ، وقُوَّتَه من ضعْفِه، وكيف عثر، ومِنْ أينَ أدركه الضعف؟ وما الذي كان عليه أن يقول؟
فيأتي نقدُه محكماً.
وإذنْ؛ فمن أراد أن يَنقُدَ شعر شاعرٍ؛ فعليه أن يبحث أوَّلاً عن موهبة الشَّاعر فيتناول نفْسَهُ وطَبيعته الشاعرة ونصيبَه أو حظَّه منها؛ ثم يتكلَّم عن فنّه البياني، وما يتعلَّق بالألفاظ وعيوبها ومحاسِنِها، والسَّبك والأسلوب، وجودة التعبير أو رداءته.
ويقولُ الأستاذ مصطفى صادق الرافعي:
«ولا يُرادُ مِنَ النَّقدِ أن يكونَ الشاعر وشعره مادةَ إنشآء، بل مادة حساب مقدَّر بحقائق معيّنة لا بدَّ منها؛ فَنَقدُ الشِّعر هو في الحقيقة علمُ حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تقابل الجمعَ، والطرح والضَّربَ، والقِسْمَةَ؛ هي الاطّلاع، والذَّوق، والخيالُ، والقريحة الملهمة».
وبالنَّقْدِ الصَّحيح يَسْمو الأدب، ولقَد كانَ مِن الأسباب التي سمَتْ بالشعر في العصر العبَّاسي الأوّل، ودَفعت أربابَه إلى الإتقان والإجادة؛ كثرةُ النقَّد؛ ومحاسبتهم للشّعرآء، ووقوفهم لهم بالمرصاد، فما كان الشاعرُ يرْسِل شِعْره إلاّ وهو يحسب حساب «الناقد» الخبير ببلاغة الكلام، وأساليب الفصاحة، ويُفكّر فيما عسى أن يقول فيه من مَدْح أو قدح؛ فإذا ما اتَّجَهْنَا هَذا الاتّجاه على طريقٍ مُسْتَقيم فسنحفظ نهضتَنَا الأدبيَّة من التَّعثُّر، ونصقلُ الأفكار والألسنة والأقلام بصقال الإجادة، والتهذيب، والتنقيح.
ومن أهمّ شروط «الناقد» النّزاهة، والإنصاف؛ فإذا كان «الشاعر» يُمثِّل «العاطفة المتكلِّمة»؛ فإنَّ «الناقد» يُثل «العقل المميّز»، وإذا كانت «العواطف» والرغبات تنْدفع مَعَ ما يسرُّ ويُؤلم، وإن تعصَّبتْ وكابَرَتْ؛ فإنَّ «العَقْلَ» لا يَجْهَر إلاَّ بما يراه حقًّا، والحق والإنصاف هما جوهرُ وجودِه .... فإن تعصَّب مُكابراً .... وتعنَّت مُتَعَسِّفاً؛ فقد ذلَّ للهوى؛ ولم يِعُد «عقلا».!
لا مجاملة في «النقد» ولا مجازفة، ولا تحامُل، ولا تهريج. لأنَّه «ميزان» يرجحُ بالوزن لأنَّه راجحٌ في نفسه، ويطيحُ بالهبآء لأنَّه هبآء في حقيقتِهِ؛ وكل من ماورآء ذلك من بيان مُزَوّق، وقولٍ منمَّق، فإنَّما هو إرضآءٌ لِرَغْبَةِ الفَنّ، وإشباعٌ لِشَهْوة البيان.
وبعد هذا نقولُ ما قاله «الرافعي» أيضاً:
«إذا كانَ من نَقْدِ الشِّعر عِلمٌ؛ فهو علمُ تشْريحِ الأَفكَار، وإذا كان منهُ فنٌّ؛ فهو فنُّ درسِ العاطفة؛ وإذا كانَ مِنهُ صِناعة؛ فَهو صِنَاعة إظهار «الجَمَال البياني في اللّغة» اهـ. وما أعجب وأدقّ هذا الكلام.
المصدر:
أحمد بن محمد الشامي: مَع الشّعر المعاصِر في اليمن "نقدٌ وتاريخ" ص: 245