((الشعرُ والشعراء بين زمنين ..... )) *
ـ[عبدالوهاب]ــــــــ[02 - 06 - 2006, 12:20 ص]ـ
((الشعرُ والشعراء بين زمنين ..... )) *
لدينا نحن العرب تضخمٌ كبير وهائل، ومفزع، في عدد الشعراء (المعاصرين) ‘ يفوق ما عرفه أي عصرٍ من عصورِ الأدب العربي " فبحسب موسوعة البابطين للشعراء العرب المعاصرين، بلغ تعداد الشعراء 1644شاعراً، ممن عاصروا الموسوعة إبان صدورها فقط، تم اختيارهم من بين ثلاثة آلاف ممن قدموا أعمالهم للموسوعة، وهم يحسبون أنهم شعراء. " (1) السؤال الذي يمكن أن يحضر منطقياً ــ هنا ــ أمام هذا العدد الهائل من الأسماء الشعرية .... هل ثمة إبداع أو شعر أصيل في أدبنا المعاصر يتناسب طردياً مع الطفرة العددية وهل يمكن أن نفاخر به عالمياً،أو بكلمات أخرى: كم سيتبقى لنا من هؤلاء الشعراء إذا أعدنا عملية الترشيح والفلترة مرةً، أو مرتين؟!
في أدبياتنا النقدية والإعلامية أيضا، تعجلاً وعشوائية، في إصدار الأحكام النقدية، ومن ذلك منح مسمى (شاعر) على أي محاول ٍ في مجال الكتابة الشعرية، حتى وإن كان نتاجه الأدبي قصيدة، لا فضل له فيها إلا إقامة الوزن والزعيق اللغوي ... وأيضاً لدينا أزمة في خلع هذا المصطلح على من يحصر أدواته في شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، أوفي أحدهما، وهذا برأيي لا يستحق حيازة المسمى؛ لأنَّ هذين الجنسين الشعريين ــ في حد ذاتهماـ تساهل و فرع من أصل، ولا استحقاق للمسمى إلا إذا أجاد الأصل إجادة بشروطها .....
إنّ النقد القديم كان في غاية الصرامة حين يخلع مسمى (شاعر) على التجارب الشعرية، ولا يمكن أن يمنح لأحدٍ مالم يستوفِ شروط الصنعة بتمامها؛لذلك يجب على شعرائنا المعاصرين (الحداثيين) أن يكونوا متصرفين في جميع الأجناس الشعرية: العمودي، والتفعيلة، وقصيدة النثر، وهو آكد وأوجب في حقهم ومشروطٌ بإجادة كلٍّ منها، وليس مجرد الممارسة اللاهية أو التجريب العابث ....
ولعلّ من حسنات النقد القديم، وسر حيويته؛ تلك المعيارية الصريحة في تصنيف الشعراء إلى مراتب وطبقات كل بحسب إجادته واقترابه أو بعده من المعايير النقدية، ومن ظريف تقسيماتهم قولهم في مراتب الشعراء " الشعراء أربعة: شاعر خنذيذ، وشاعر مفلق، وشاعر فقط، وشعرور" (2) وكذلك قولهم " الشعراء: شاعر وشويعر، وشعرور " (3)؛ لذلك كان القدماء أدق منا في تصنيف الشعراء، فلم يكن لقب (شاعر) مشاعاً لكل من هبَّ ودبَّ، بل على النقيض من ذلك تماماً، كانوا يهولون من امر الشعر ويعظمون من شأنه، وكانوا يربطون هذه التقسيمات بأصحابها وبأسماء شعرية صريحة دون اعتبار لدرجتها قوة أوضعفاً أو للشخصية الشعرية. ومن ذلك "قول الأصمعي: الشويعر مثل محمد بن حمران ومثل عبد العزى، وقول الجاحظ: والشويعر عبدياليل من بني سعد " (4)، ولم تكن هذه التقسيمات اعتباطية، بل كانت وليدة حرصهم، وعنايتهم بالشعر، وتقديسهم له. قال الحطيئة (5):
الشعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلمه ....... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
إذا ارتقى فيه الذي لايعلمه ........ زلتْ به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
ويظلُ تعظيم الشعر والإجادة فيه هاجساً يفرض نفسه على الشعراء؛ حتى أن شيطان الشعراء (دعبل الخزاعي) قال (6):
سأقضي ببيت يحمد الناس أمره .... ويكثر في أهل الروايات حامله
يموت رديء الشعرمن قبل أهله ..... وجيده يبقى وإن مات قائله
أمام هذه الصرامة النقدية لايملك الشعراء إلا تجويد أشعارهم إجادة تتناسب ومعايير ذلك النقد، الذي يصنف كل شاعر وقصيدته، حسب ماتستحقه، فلا مجاملات، ولا شيء من قبيل هذه الصناعات الإعلامية، التي نراها اليوم، في صحافتنا الأدبية بمباركة النقاد المجاملين والنقد المعلب؛ لأجل ذلك أورثوا أدباً حياً، يعيش ماعاشت الحياة نفسها؛ بعكس أدبنا اليوم، الذي لايصلح أكثره إلا لملء تلك الصفحات الفارغة من الصحف .... ,وأكثره لايمكن أن يحمل (الجنسية الأدبية) إذا ما محص تمحيصاً صادقاً؛ لأنه " إذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى،ولا اختراعه، أو استطراف لفظ وابتداعه أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نقص ما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى من وجه إلى وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لاحقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن .... " (7) وبمثل هذا الوعي النقدي نستطيع القضاء على طفرتنا الشعرية،وأنا في هذا، لا أعدو الحقيقة؛ لأن هذه الأحكام النقدية القديمة بصرامتها، هي العقار الناجع للداء الشعري الذي نعيشه اليوم؛ فلو أخذنا على سبيل المثال مئة قصيدة غزلية لشعراء معاصرين ثم حللناها، وفق المعايير السابقة، لوجدنا أنها لا تحفل بتجاوزات أسلوبية أو فنية أو بلاغية، يمكن أن تحسب لها، وحتماً سنجد التشابه والتكرار والنمطية، والمباشرة، ووقع الحافر على الحافر؛ مما يعني أن شعرنا يشبه بعضه بعضاً، ولا حاجة لقراءة أكثر من ديوان، فديوان واحد يكفي ويغني عن البقية؛ وهذا ما يعلل قلة الرصيد الجماهيري المتفاعل مع الشعر قراءة وحتى حضورا لأمسياته، التي بات الشعراء فيها ينشدون ويصفقون لأنفسهم ..... ومن بين هذا الرماد الشعري، تتذكى مواهب وملكات شعرية حية وشابة، خلقت أدباً رفيعاً، يتنفس بيئته ومحيطه، ويعبر عن واقع حياته، ويطارد أحلامه بلغة شعرية، استفادت من موروثها القديم، ومن مدارس الأدب العالمية الحديثة، واستطاعت صهر طرفي المعادلة في بوتقة يمكن تسميتها بالشعر العربي الحديث، ويستحقون عن جدارة واستحقاق التربع على إمارة الشعر العربي، وأن يتغنى التاريخ بهم زماناً بعد زمان ........
إحالات:
(1) انظر صحيفة (المحايد) الأسبوعية، عدد (131)،مقال للدكتور/ وليد قصاب.
(2) العمدة لابن رشيق القيرواني، ج2، ص125.
(3ــ 7) نفسه، ج1، ص 103ــ 104.
* عبدالوهاب بن حسن النجمي
[email protected]
** نشر الموضوع في مجلة (الأربعاء)
¥