تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[كلام نفيس للآمدى]

ـ[ابراهيم]ــــــــ[26 - 09 - 2004, 08:11 م]ـ

وقفت على بعض هذه الكلمه فى كتاب"تحت راية القرآن"لمصطفى صادق الرافعى فقمت بالرجوع الى كتاب الموازنة فوجدته فيه فأحببت أن أنقلها إليكم لما فيها من الفائدة.

وبعد؛ فلم لا تصدق نفسك أيها المدعي، وتعرفنا من أين طرأ عليك العلم بالشعر، أمن أجل أن عندك خزانة كتب تستمل على عدة من دواوين الشعراء وأنك ربما قلبت ذلك أو تصفحته أو حفظت القصيدة أو الخمسين منه? فإن كان ذلك هو الذي قوى ظنك، ومكن ثقتك بمعرفتك، فلم لا تدعي المعرفة بثياب بدنك ورحل بيتك ونفقاتك? فإنك دأباً تستعمل ذلك وتستمتع به، ولا تخلو من ملابسته كما تخلو في كثير من الأوقات من ملابسة الشعر ودراسته وإنشاده حتى إذا رمت تصريف دينار بدراهم أو تصريف دراهم بدينار أو ابتياع ثوبٍ أو شيء من الآلة لم تثق بفهمك ولا علمك حتى ترجع إلى من يعرف ذلك دونك فتستعين به على حاجتك? ولم لما خفت الغبينة في مالك فأذعنت وسلمت وأقررت بقلة المعرفة، ولم تخش الغبينة والوكس (1) في عقلك فتسلم العلم بالشعر إلى أهله? فإن الضرر في غبن العقل أعظم من الضرر في غبن المال.

فإن قلت: وما العلم بالخيل والبز والرقيق والذهب والفضة التي لم يطبع الإنسان على المعرفة بها والعلم بجيدها ورديئها كما طبع على الكلام؛ فكان كل أحد يكون متكلما، وليس كل أحد صيرفيا ولا بزازاً ولا نخاساً?.

قيل: ولا كل أحد يكون شاعراً، ولا خطيباً، ولا منطيقا بليغا، ولا بارعا، ولو كان ذلك كذلك لما رأيت أحداً يتكلم فيستحسن كلامه، وآخر يتكلم فيضحك منه؛ فالإنسان المتكلم يعلم معاني ألفاظ لغته، ولا يعلم جيدها من رديئها، ومتخيرها من مرذولها، كما أنه يعلم أيضاً أنواع الثياب والجواهر والخيل والرقيق، ويميز بين أجناسها، ولا يعلم جيد كل جنس من رديئه، وأرفعه من أدونه، فكما أن المعرفة بكل جنس من هذه صناعة، فكذلك المعرفة بكل جنس من أجناس الكلام والشعر والخطابة صناعة، فإذا رجعت في المعرفة بتلك إلى أهلها فارجع أيضاً في المعرفة بهذه إلى أهلها.

وبعد؛ فإني أدلك على ما ينتهي بك إلى البصيرة والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة أو الجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض، فإن عرفت علة ذلك فقد علمت، وإن لم تعرفها فقد جهلت، وذلك بأن تتأمل شعري أوس بن حجر والنابغة الجعدي؛ فتنظر من أين فضلوا أوساً، وتنظر في شعري بشر بن أبي خازم وتميم ابن أبي بن مقبل، فتنظر من أين فضلوا بشرا. وأخبرني بعض الشيوخ عن أبي العباس ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن سائلا سأله عن الراعي وذى الرمة أيهما أشعر، فصاح عليه صيحة منكرة: أي لا يقاس ذو الرمة بالراعي، وكذلك غير المفضل لا يقيسه به ولا يقارب بينهما، فتأمل أيضاً شعري هذين فانظر من أين وقع التفضيل؛ فهذا الباب أقرب الأشياء لك إلى أن تعلم حالك في العلم بالشعر ونقده. فإن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه وأخروا من أخروه؛ فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك فاعلم أنك بمعزل عن الصناعة، ثم إن كنت شاعرا فلا تظهر شعرك، واكتمه كما تكتم سرك، فإن قلت إنك قد انتهى بك التأمل إلى علم ما علموه لم يقبل ذلك منك حتى تذكر العلل والأسباب، فإن لم تقدر على تلخيص العبارة عن ذلك حتى تعلم شواهد ذلك من فهمك ودلائله من اختياراتك وتمييزك بين الجيد والردئ.

ثم إني أقول بعد ذلك: لعلك - أكرمك الله - اغتررت بأن شارفت شيئاً من تقسيمات المنطق، وجملا من الكلام والجدال، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام (*)، أو حفظت صدراً من اللغة، أو اطلعت على بعض مقاييس العربية، وأنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع معاناة ومزاولة ومتصل عناية فتوحدت فيه وميزت - ظننت أن كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضت له وأمررت قريحتك عليه نفذت فيه، وكشفت لك عن معانيه، وهيهات! لقد ظننت باطلا، ورمت عسيراً؛ لأن العلم - أي نوع كان - لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه، والإكباب عليه، والجد فيه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه، ثم قد يتأتى جنسٌ من العلوم لطالبه وبتسهيل عليه، ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر؛ لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه؛ فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك.


(1) الوكس: النقص
(*) قال الرافعى هنا"هذه نسيها طه"

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير