[جماليات الكذب لعبد الله الغذامي]
ـ[معاوية]ــــــــ[23 - 09 - 2006, 02:15 م]ـ
جماليات الكذب
" هذه كلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل
حتى قال بعض أهل اللغة: أظنها من الكلام
الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه"
الإمام الزمخشري
1 - تكاذيب الأعراب:
"قال أبو العباس، وهذا باب من تكاذيب الأعراب:
... ... تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي فإذا أنا بظلمة شديدة فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت.
فقال الآخر: لقد رميت ظبيًا مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر، فانحدر عليه حتى أخذه" (1).
2 - الكلمة المشكلة (سؤال المصطلح):
هذه الحكاية تواجهنا بأسئلة عميقة ومهمة، حول جماليات القول وعن علاقات النص وسياقاته، بوصف النص أداة اتصالية لا أقول إنها تعبر عن صاحبها وتكشفه لنا فقط، بل إنها تتدخل في تشكيل هذا القائل مثلما تتدخل في تشكيل المتلقي. ومن هنا فإن (النص) يصبح مهمًّا وخطيرًا في الدرجة نفسها. ولكن لن نتمكن من ملامسة خطر النص وأهميته إلاّ من خلال تشريحه تشريحًا نصوصيًّا بهدف فهمه أولاً ثم تفسيره بعد ذلك.
ولكي نفهم هذا (النص) لا بدّ لنا من الوقوف على مصطلحاته الأساسية وبالتحديد مصطلح (تكاذيب)، وبعد ذلك نأخذ بتشريح النص ثم الانطلاق منه لتوصيف السياق الفني الذي ينفتح عنه (المخيال الشعبي) بوصفه ناتجًا نصوصيًّا يتمثل في هذا النص الأدبي الطريف جدًا والمهم جدًا والجاد جدًا، المسمّى (تكاذيب الأعراب) حسب اصطلاحات أبي العباس المبرد وغيره من أوائل اللغويين والأدباء.
ونحن لو تصورنا حالنا في وضع من يستقبل هذه الحكاية ويستمع إليها، لتبادر إلى أذهاننا فورًا جواب تقليدي يتواتر على كل الألسنة في مثل هذه الحالة، وهو أن نقول إن هذا كلام فاض يقوله أناس فاضون.
هذا هو الجواب التقليدي الذي نجابه هذه الحكاية به.
إنه جواب يحمل في دلالته الصريحة معاني الاستهزاء والازدراء، وهذا هو مقصد صاحب الإجابة، غير أن الدلالة الضمنية لهذه الإجابة ليست بالبعيدة عن الصواب إذ أن الفاضي لغة هو المتسع (2). ولا ريب أن هذه الحكاية فاضية بمعنى أنها متسعة وأنها ذات (فضاء) فسيح من الدلالات والإشارات والاحتمالات الممكنة مما يفتح مجالاً غير محدود للنظر وإعادة النظر، وللتفسير وإعادة التفسير. وفضاء النص هو ما سنسعى إلى الدخول فيه والبحث في مجرَّاته غير المتناهية. وإن وصف هذا النص بأنه (كلام فاض) يشير إلى حقيقة غائبة تؤدي إلى الرفع من شأنه بدلاً من مرادها الظاهري الساخر والملغي.
(1) المبرد: الكامل 2/ 548 - 550 (تحقيق زكي مبارك) مطبعة البابي الحلبي، القاهرة 1937م.
(2) من قولهم (فضا المكان يفضو فضوًّا) إذا اتسع فهو فاض: الزمخشري أساس البلاغة. مادة (ف ض و).
ـ[داوود أبازيد]ــــــــ[24 - 09 - 2006, 11:04 ص]ـ
لا يمكن للكذب أن يكون جميلا بأي حال .. فإذا تذكرنا ما يروى عنه عليه الصلاة والسلام (لعن الله الكاذبَ ولو كان مازحا) عرفنا بشاعة الكذب .. ولا يمكن لأي مصطلح أن يحسِّن أو يجمِّل صورة الكذب الشوهاء .. وقد اصطلحوا على تسمية أكاذيب الأدب والفن بالخيال .. وليس بذاك ..
ـ[معاوية]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 02:34 ص]ـ
صلى الله عليه وسلم
ـ[معاوية]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 01:41 م]ـ
وأول فضاءات النص هو مصطلح (الكذب)، هذه الكلمة المشكلة ـ كما يقول الإمام الزمخشري ـ التي تعني الشيئ ونقيضه في آن، مثلما تدل على الاحتمالات الدلالية المتنوعة مما يجعلها كلمة متوترة ذات معاني غريبة ولذا فهي تصبح (الكلمة المشكلة)، ولا بدّ حينئذٍ أن تصبح التكاذيب أيضًا مشكلة، ويكون هذا الفن فنًّا إشكاليًّا لأنه من مصدر إشكالي، ولسوف نواجه نحن هذه التوترات النصوصية مع تقدمنا في خطوات التشريح والقراءة.
ـ[العاذلة]ــــــــ[25 - 09 - 2006, 05:50 م]ـ
فإذا تذكرنا ما يروى عنه عليه الصلاة والسلام (لعن الله الكاذبَ ولو كان مازحا)
لقد أرعبني الحديث، وبحثت عنه في كتب الألباني للحديث ولم أجده أرجو أن تحيلني لمرجع محقق حول هذا الحديث.
ـ[معاوية]ــــــــ[27 - 09 - 2006, 12:07 ص]ـ
ومثلما رأينا أن جملة (كلام فاض) يتم استخدامها ونحن نقصد بها معنى لا نشك في دلالته، ولكنها هي تتجه نحو دلالة أخرى غير ما نرومه منها، والدلالتان هنا تتناقضان وتتعارضان، وكذلك هي كلمة (كذب) التي نستخدمها بمعنى نتفق عليه ولا نشك بدلالته، لكنها هي تقترح وتفتح لنفسها مجالاً دلاليًّا مختلفًا ومناقضًا لما كنا نتصور. ومن هناك فإنها تشاكس كل قناعاتنا حول المعنى المتفق عليه. ولهذا فإن الزمخشري يقع أمام هذه الكلمة حائرًا محتارًا، فيصفها بالكلمة المشكلة أولاً، ثم ينقل رأي من رأى أنها كلمة من موروث مضى ومضى معه أهله ومن له علم بذلك الموروث، وهو بذلك يشير إلى خطورة هذه الكلمة وإلى أهميتها وأهمية (الفضاء الدلالي) الذي تتداخل معه، وفي ذلك يقول محددًا ومثيرًا لإشكالية المصطلح:
هذه الكلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل، حتى قال بعض أهل اللغة: أظنها من الكلام الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه (1).
ولا ريب أن الزمخشري هنا لا يقصد حرفية الحكم بأن الكلمة ودلالتها قد انقرضت. ولكنه فقط يشير إلى درجة الاضطراب الدلالي حولها، مما يجعلها كلمة مفتوحة منفوخة منفوحة على مختلف أنواع التأويلات والتفسيرات، وكل تفسير إن هو إلا اجتهاد يسلك طريق الاحتمال والإمكان ـ كما يقول ابن فارس ـ الذي وقف موقف المحتار من هذه الكلمة أيضًا (2).
(1) الزمخشري: الفائق في غريب الحديث، 3/ 250، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. نشرة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1977م.
(2) ابن فارس: الصاحبي 58، تحقيق السيد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1977م.
¥