أو يجعل الفعل لأحدهما ويشرك الآخر معه، أو يذكر شيئاً، فيقرن به ما يقاربه ويناسبه، ولم يذكره، كقوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) (**) وقد ذكر الإنسان قبل هذه الآية دون الجان وذكر الجان بعدها. وقال المثقب العبدي:
فما أدري إذا يممت أرضاً
أريد الخير، أيهما يليني
أَأَلخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
فقال: "أيهما" قبل أن يذكر الشيء؛ لأن كلامه يقتضي ذلك ... ومن ذلك إضمار ما لم يذكر جلّ اسمُه: (حتى توارت بالحجاب) ( ... )
يعني الشمس ... وقال حاتم:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
يعني النفس. وحدف"لا" من الكلام وأنت تريدها كقوله تعالى: (كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم) (****)
(أي: ألا تحبط) وزيادة "لا" في الكلام كقوله سبحانه: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) (*) فزاد "لا"؛ (لأنهم لا يؤمنون) ... وقال جل اسمه: (وما منعك ألا تسجد) (**) أي: ما منعك أن تسجد ... وقال أبو النجم العجلي:
فما ألوم البيض ألا تسخرا
يريد: "أن تسخرا ... "36
ليس على ابن رشيق حرج في أن يؤدي القياس به وبغيره أيضاً إلى اعتبار مثل هذه الأشياء التي جرت العادة أن تحمل على الضرورة في الشعر، مظهراً من مظاهر البلاغة والفصاحة فإن مجرد ورود مثلها في القرآن -وهو الذروة في البلاغة والفصاحة والمثال الذي يحتذى -كاف في تسويغها بل عدّها من مظاهر القوة الشعرية أيضاً.
ثم نلتقي بعد نحو قرنين من عصر ابن رشيق بابن عصفور (ت669هـ)؛ فنراه يفتتح كتابه "ضرائر الشعر" بالقول: "إن الشعر لما كان موزوناً ... أجازت العرب فيه مالا يجوز في الكلام؛ اضطروا إلى ذلك أم لم يضطروا إليه، لأنه موضع ألفت فيه الضرائر"37
وبحسبنا من هذا القول التفاتته إلى أنّ ما لا يجوز في الكلام قد يأتي في الشعر دونما اضطرار إليه؛ لأن هذا الذي لا يجوز في الكلام هو مما يقوم عليه الشعر حتى لكأن وروده في الشعر صار أمراً مألوفاً. ولعل هذا هو مؤدّى قوله: إن الشعر"موضع ألفت فيه الضرائر".
ونلتقي في هذا العصر بنحوي آخر وهو ابن مالك (ت672هـ) فنراه قد ضيّق من مفهوم الضرورة، إذ هي عنده "ماليس للشاعر عنه مندوحة"38 فأما ما لا يؤدي الوزن والقافية إليه فليس هو من الضرورة في شيء. وعلى ذلك فإن دخول "أل" على الفعل في قول الشاعر:
يقول الخنى وأبغض العجم ناطقاً
إلى ربنا صوت الحمار اليجدع
وفي قول الآخر:
وليس اليَرى للخلّ مثل الذي يرى
له الخل أهلاً أن يعد خليلا
هو دخول اختياري39 وفي هذا يقول ابن مالك: "وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة لإمكان أن يقول الشاعر: صوت الحمار يجدع، وما مَن يرى للخل، وإذا لم يفعلوا ذلك مع الاستطاعة ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار"40
ويبدو أنّ ما أدّى بابن مالك إلى أن يضيِّق من مجال الضرورة هو منهجه في الاعتداد باللهجات المختلفة والقراءات القرآنية والحديث النبوي؛ فإذا ورد من هذه شيء مما يقول النحاة عن نظيره إنه من الضرورة لا يعده هو كذلك، بل يعيد كل ظاهرة إلى أصلها، وقد نص على أنه لهجة قبيلة معينة، وضرورة عند غيرهم.41 وعلى ذلك فإن ابن مالك لا يسدّ باب الضرورة وإنما يضيقه.
بيد أن رأي ابن مالك لم يسلم من النقد الشديد من بعض المتأخرين كأبي حيان (ت745هـ).والشاطبي (ت790 هـ). وقد نقل السيوطي عن أبي حيان قوله في ابن مالك إنه "لم يفهم معنى قول النحويين في ضرورة الشعر، فقال في غير موضع: ليس هذا البيت بضرورة، لأن قائله متمكن من أن يقول كذا ... الضرورة إنما هي دليل قصور من الشاعر، ولكنه القصور القابل لإمكانية التصحيح.
ويشير الشاطبي في معرض رده إلى أمر مهم جداً، وهو "أنه قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر، واحدة يلزم فيها الضرورة إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة؛ لأن اعتناءهم بالمعاني أشدّ من اعتنائهم بالألفاظ"42 فههنا مهمة إشارة إلى أن الضرورة قد جاءت اختيارا وأن من ورائها غاية معنوية.
¥