تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ورغم برودة الجو في هذا الصباح الباكر واضطراب حالة الطقس وارتفاع مستوى الموج، إلا أن القبطان – ذلك الغامض الأعرج-أطلق صافرة الانطلاق لمركبته لتشق عباب الماء في تحد ٍ صارخ للمجهول وبدأ البحارة يرفعون الأشرعة ويسدلونها بحركات متتابعة مدربة وسط أهازيجهم التي تبعث في النفس حلاوة المغامرة.

كان (كريم) يسترق النظر إلى المرفأ الذي بدأ يتباعد تدريجياً من خلال نافذة غرفته وقد بدأ في ترتيب أغراضه وملابسه داخل الخزانة ويتراقص بحركات متمايلة ويردد مقاطع من أغنيات تنساب إلى أذنيه من جهاز التسجيل المعلق إلى خصره .. ولم يفسد عليه هذه الأجواء الحالمة إلا صوتُ سيرين وهي تقتحم عليه غرفته بعد أن ملت من كثرة طرق الباب دون أن يسمعها .. دخلت وأقفلت جهاز التسجيل وقد عقدت حاجبيها ثم أبعدت سماعتي التسجيل عن أذنيه وصرخت في وجهه قائلة: " إن لم توافني في الكافيتيريا حالاً فسوف أقبل دعوة أي أحد من زملائي إذا دعاني إلى فنجان قهوة .. هه!! ".

ثم انصرفت وأغلقت الباب بقوة تاركة ً إياه يتأمل علامة استفهام كبيرة ارتسمت في الهواء أمام عينيه.

لم يجد (كريم) بداً من أن يلملم أغراضه سريعاً ويخرج بحثاً عنها بين الدهاليز والممرات حتى وجدها هناك في الكافتيريا الرئيسي تقف وسط عدد من زملائها وزميلاتها الفرنسيين والعرب.

حياهم بأدب ثم أمسكت سيرين بيده والتصقت بجانبه في نشوة ظاهرة،وراحت تعرفه إليهم وتعرفهم إليه وهو يصافحهم الواحد تلو الآخر.

دار بينهم حديث متشعب حول كل شيء في جو يملأه المرح والسرور في شيء من الدبلوماسية واللباقة .. تعرفوا من خلاله على بعضهم البعض بشكل أكبر، وكانت فرصة رائعة بالنسبة لسيرين التي لم تكن لتبعد عينيها المعجبتين عن صديقها الخجول وقد تحول إلى شخصية ذات دعابة ونكتة .... وجاذبية.

فجأة!!! ... لمعت في عيني سيرين آثار منظر أعجبها وراء النافذة فأمسكت بيد كريم واستأذنت منهم بلطف وصعدت به إلى سطح الباخرة في نفس الوقت تماماً الذي استطاعت فيه الشمس أخيراً أن تخترق فراغات بدت بين السحب السوداء الكثيفة لتطل على الأرض بوجهها المشرق، وراحت تداعب سطح الماء بخيوط ذهبية لم يكن في ذلك اليوم الحالم شيءٌ أجمل منها ولا أروع.

على حافة سطح الباخرة من مؤخرتها .. وقفا يملآن صدريهما بالهواء النقي ....

نسمة هواء باردة تسللت على حين غفلة منهما وراحت تتلاعب بشعر سيرين وتتمايل به .. تارة تهزه إلى آخر أطرافه في الفراغ بينهما .. وتارة تلفح به وجه وصفحة عنق كريم وهو ينظر باتجاه الشمس مغمض العينين ... ويتهامسان بعبارات مقتضبة للغاية حديثاً لا يفهمه سواهما.

وبينما هما في هذه الأجواء الحالمة إذ تزايد من حولهما عدد الركاب الذين اجتذبهم هم أيضاً جمال المشهد وشاعريته وهدوءه، فاغتالوا بذلك من حيث لا يشعرون شيئاً من مشاعرهما الرقيقة البكر ووأدوها تحت تراب صدريهما قبل أن ترى النور .. فانسلا من بين الجموع وعادا إلى غرفتيهما ليأخذا قسطاً من الراحة قبل موعد الغداء.

* * * * * * * * *

كانت سيرين في حركة دائبة داخل غرفتها ترتب أغراضها وتجهز كاميرتها الرقمية استعداداً لكمٍ هائلٍ من الصور والذكريات الجميلة ... وكلما احتاجت إلى شيءٍ من العون والمساعدة هرعت إلى غرفة كريم دون تردد.

أما كريم، فقد انشغل عنها وسط ألوانه وأصباغه وريشه وهو يرسم المنظر البديع الذي لاح له من بين شرائح ستارة غرفته .. ويمزج المنظر بمناظر متداخلة بشكل معقد تتسرب إلى خياله لا يدري مصدرها

بدأت معالم بحرٍ لُجّي عميق تظهر على قاعدة اللوحة .. وفي طرفها الأيسر رسم دوامات دائرية على سطح الماء تكاد تبتلع سفينة عملاقة توسطت اللوحة وهي تصارع الأمواج!!.

وفي أقصى الركن الأيمن العلوي من اللوحة بالكاد يظهر طرف قرص الشمس وقد خنقتها السحب السوداء وأخفتها بعناية عن الأرض .. وخيوط ٌ من النور الساطع نجحت في الإفلات من قبضة السحب لتصل أخيراً إلى أعالي جزيرة قابعة بصمت في أحضان المحيط فتوصل إليها نداءات استغاثة متكررة من أهل الشمس إلى أهل الأرض!!!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير