لم تكن قد استعدت لموقف كهذا على الإطلاق؛ فقد فاجأها كريم بجرأته وإصراره ..
ثم بدأت المسافة بين عيونهما تتقلص تدريجياً دون أن يشعرا ..
وبدأ صدر كريم ينزل باتجاهها شيئاً فشيئاً ونظراته لم تبتعد لحظة عن عينيها السوداوين وفيهما من العذوبة والجمال والرقة ما جعله يتصرف تحت إمرة مشاعره المضطربة ..
ثم دنى منها أكثر حتى كاد أنفه يلامس أنفها .. ثم دفعته عنها بقوة وراحت تبكي بصوت مكتوم!!! وتقول له: " ابتعد عني "!!!!!
زادت حيرة كريم ودهشته عندما سمعها تتكلم لغته العربية وبوضوح تام!!!
قال لها بصوت خافت: " أردت فقط أن أعبر لكِ عن شكري أن أنقذتي حياتي من ذلك المخلوق الغريب ".
قالت له: " كاواكا!! ... إنه آخر من بقي على قيد الحياة من فصيلة قرود (الجابون الشرسة) وقد أصبح مفترساً وخطراً وملاحقاً من الصيادين الذين قضوا على أسلافه.
كريم:" كيف تتكلمين العربية هكذا "؟؟؟؟
قالت له بصوت متقطع: " إسمي (غيوم) .. أبي عربي من بلاد الخليج وأمي فارسية ... كان والدي ضابطاً بحرياً قبل أن يهاجمهم (بالان كا) قبل أربعين سنة ويحطم سفنهم الحربية الأربع ..
قاطعها كريم متسائلاً: " تذكرت الآن تلك المخلوقات المفزعة وهي تردد كلمة غريبة تشبهها هي: (جاد .. بالان .. كا) ماذا تعني؟؟
غيوم وهي تضحك: (بالان كا) تعني الحوت الأعمى. أو إعصار البحار كما يسميه أبي .. و (جاد بالان كا) يعني إبن الحوت.
لقد حطم الإعصار سفن الإنجليز في الحرب العالمية الثانية إبان فترة الاستعمار .. وكان والدي بين القلة القلائل الذين نجوا من الموت ثم جرفه الموج وأربعة جنود من فرقته إلى هذه الجزيرة (آلاد ميرانتي أو جزيرة الحب كما يسمونها) ثم بقوا فيها إلى اليوم ..
وأمي فارسية قدمت من بلاد فارس على متن باخرة محملة بالركاب والبضائع كانت تمر في نفس التوقيت وقد ضربهم (بالان كا) هم أيضاً وشتت الناجين بين تلك الجزر الممتدة على طول وعرض بحر العرب بين جزر المالديف وجزر سيشيل .. وكان أن وصلت أمي مع بعض أسرتها إلى هنا ثم تعرفت إلى والدي بعد عشر سنين وقد فقد الجميع الأمل بالعودة إلى بلادهم لندرة ما يمر من سفن بهذه النواحي .. ثم تزوجا، وافترق عنها أبي لطلب الرزق مع قراصنة البحر في المحيط الهندي، ثم عاد إليها بعد ست سنين مبتور الرجل ومفقوء العين اليسرى وقد أقسم ألا يعود إلى حياة القرصنة ثانية وقد بلغ الثمانين الآن وعجز عن العمل.
ثم أردفت غيوم تقول:" تعلمت العربية من أبي وبعض العرب القلائل هنا .. وتعلمت الفارسية من أمي وأقاربها .. وتعلمت لغة أهل الجزيرة .. وحين رأينا الصواعق تأتي ثانية من ناحية الشمال بنفس الظروف قبل أربعين سنة بدأنا نرقب الناجين. ثم وبعد مرور يومين وجدوك بعض الصيادين في عرض البحر طافئاً على ظهر قطعة خشب كبيرة هي على ما يبدو بقايا حطام سفينة، فاقد الوعي وقد تورمت بطنك من كثرة ما ابتلعته من ماء البحر وخافوا الاقتراب منك أكثر خشية غضب والدك (الحوت) الذي بعثك إليهم لتتزوج أجمل فتياتهم، كما تقضي بذلك طقوسهم ومعتقداتهم الموروثة، فأدخلوك الكوخ وربطوك هناك خشية أن تهرب ..
كريم: " وما ذا بعد "!!!
غيوم: " تقضي الطقوس أن ... أن لا يقترب إبن الحوت من عروسه قبل انقضاء اليوم الثالث من وصوله الجزيرة و إلا .. بطل زواجهما وحلت عليهما لعنة البحر حتى الموت. وحين ...
وحين اقتربت مني الآن .. خشيتُ أن تحل علينا لعنة البحر فدفعتك!!
هذا هو سبب هروبي منك وهذا هو سبب حزني الآن ..
بدأت غيوم تتراجع بخجل نحو الوراء، حتى اختفت داخل الغابة من جديد .. وأخذت تراقبه من بعيد بين الأشجار دون أن يشعر بها ...
* * * * * * * * * * *
ـ[الحب خطر]ــــــــ[13 - 01 - 2005, 11:12 ص]ـ
الجزء السادس
.
لم يكن اكتشافُ بقيةِ الجزيرة وزيارة سكانها هناك على الطرف الثاني منها بالأمر الذي يشغل بال كريم الآن، أو حتى يدور في رأسه على أية حال!!
كل الذي كان يشغل تفكيره الآن، هو كيف يصلح جهاز البث هذا ليرسل منه إشارة استغاثة إلى أي أحد هناك يمكنه التقاطها .. فراح يتفحص الجهاز ويدير أزراره في استغراب شديد وجهل واضح بكيفية أدائه .. ولكن دون فائدة تذكر.
¥