استوقفته طفلة تبيع بعض المصوغات اليدوية والصناعات التقليدية والاكسسوارات، وقد علقتها على كتفيها ويديها ورأسها .. وربطت بعضاً منها على أذنيها بحركة ظريفة، وعرضت عليه قلادة خرزاتها محارات وأصداف وقواقع تتوسطهن قطعة صفّير أزرق بلورية الشكل تتلألأ إذا تعرضت لأشعة الشمس.
وبينما هو وهي يتجاذبان هذه القلادة؛ هي تعرضها عليه لشرائها وهو يتمنع ويعيدها إليها في كل مرة، إذ نشبت مشادة يدوية بين بائع ومشتري في مكان ما بالسوق ليس بعيداً عنهما .. ثم تعالت الأصوات وسرعان ما تحولت إلى معركة بالأيدي بينهما، ثم أخرج كل منهما سكيناً يريد أن ينال بها من صاحبه!!
تفرق كل من كان ملاصقاً لهما وتركوا لهما مساحة كافية للعراك ..
أنهى كريم حديثه سريعاً مع الطفلة التي استطاعت أخيراً بإلحاحها أن تقنعه بشراء القلادة بالمقايضة ..
اشتراها بما معه من طعام كان في كيس جلدي معه .. ثم أخفاها في جيب قميصه واتجه نحو المتخاصمين ..
عند وصول كريم، كانت المعركة بين الاثنين قد بدأت بالفعل ... وكان المشتري ضخم الجثة وقوي البنية وشرس .. بينما البائع متواضع الجسم هادئ التصرفات إلا أنه عنيف هو الآخر ..
اقترب كريم من بعض شهود العيان وهم يتهامسون بلغة ساحلية لم يفهم منها شيئاً على الإطلاق، غير أنه أحس من حركات أيديهم أن المشتري كان قد اختلس قطعة فخارية ثمينة من بضاعة البائع وأخفاها بين ملابسه ينوي سرقتها، فرآه البائع وطالبه بدفع ثمنها أو استرجاعها فدخلا في عراك ..
ثم اشترك أحد الذين كانوا مع المشتري في العراك وأصبحا إثنين ضد واحد .. ثم تدخل ثالث معهما يحاول استغلال انشغال الناس وغفلتهم وحاول أن يسرق شيئاً من البضاعة. والناس يرون هذا كله ولا يقدمون على شيء مخافة الوقوع في مأزق أكبر مع هؤلاء الأشرار .. حينها ثارت حمية كريم لنصرة الحق وتدخل لفض النزاع بالحسنى ومساعدة البائع المسكين .. وسرعان ما تحول هو إلى طرف في القضية وزادت بتدخله المعركة حدة وضراوة!!!
صوت طلقات نارية انطلقت من بنادق قوية جاءت من خلف الجموع أسكتت الضجيج، ثم سمع الناس وقع أقدام خيول رجال الشرطة الذين جاؤوا يهرعون إلى التجمع يتقدمهم رئيس الشرطة بنفسه، وهو رجل أبيض ضخم البطن، مبتور اليد اليسرى من منتصف الذراع تقريباً وقد وصلها بيد خشبية داخل ركاب نحاسي معقوف ووجهه دائم العبوس، ثم ترجّل عن حصانه هو ومن معه من جنود وأخذوا ينتشرون في أنحاء السوق ويدفعون الناس عن الدائرة بمؤخرات بنادقهم.
عدد من نساء القرية ابتعدن سريعاً وحملن أطفالهن بعيداً عن مسرح المعركة، في الوقت الذي أطبق فيه رجال الشرطة على المتعاركين داخل دائرة ضيقة يتوسطها محل البائع وقد تناثرت بضاعته على الأرض هنا وهناك.
كان الجميع يتحرك بصمت ينتظرون صاحب اليد النحاسية أن ينطق بالقرار .. ثم وبمحاكمة سريعة مختصرة أصدر حكمه بأن يقاد المشتري ومن معه إلى السجن لمدة شهرين وبغرامة مالية قدرها عشرة جنيهات ذهبية بعملة جزر المستعمرات الإنجليزية، وأما البائع ...
فبغرامة مالية قدرها خمسة جنيهات بدون سجن!!
هكذا كان يحكم بين الناس، وهكذا كانت أوامره تصدر وتنفذ وبكل بساطة، ومهما كانت ظالمة وغير عادلة فهي تنفذ على كل حال شاؤا أم أبوا.
ثم دنى من كريم حتى اقترب منه كثيراً .. ثم اقترب حتى التصق أنفه بأنفه .. ثم سدد نظره في عيني كريم وتمتم بعبارات غير مفهومة في حنق وكأنها تخرج من بطنه لا من فمه .. وعلى وجهه بدت آثار عملية جراحية قديمة وخياطات وغرز لم تلتئم بشكل سليم وكأنها الحشرة ذات الستة والسبعين رجلاً.
سأله بلكنة إنجليزية ثقيلة: ما اسمك يا هذا؟؟؟
- كريم: إسمي كريم.
- رئيس الشرطة: أممممم هل أنت من بقايا السفينة التي غرقت قبل أيام؟؟
نظر إليه كريم نظرة اشمئزاز لهذا الأسلوب غير اللائق في الحوار لكنه أجابه أن نعم، وشعر وكأن رئيس الشرطة هذا يحاول استفزازه ويستدرجه ليوقعه بكلمة أو تصرف يستوجب سجنه.
ثم بدأ رئيس الشرطة يلتف حول كريم بشكل دائري وهو يرمقه بنظرات شزر وكأنه يفكر في نوعية العقوبة التي سيوقعها عليه، وتذكر في نفسه أنه لا يستطيع طرده من الجزيرة دون وجود وسيلة نقل كما أنه لا يستطيع وموقفه بطولي هكذا أن يسجنه أمام الناس.
صوت فتاة تأتي من خلف الناس تخترق الصفوف لتصل إلى حيث كريم ورئيس الشرطة وهي تنادي بصوت مرتفع: جلال .... جلاااااال!!
حتى إذا وصلت إليهما قالت لرئيس الشرطة: جلال .. دع كريم وشأنه!!
إنه لا ذنب له، ولا يمكنك معاقبته بدون ذنب.
ثم دنت من كريم وأمسكت بيده تريد الابتعاد به عن الساحة فاستوقفها جلال هذا وهو يتمتم بحركات وكأنه فهم أن هناك سابق معرفة بينهما!!؟؟
- جلال: غيوم!! أهذه أنتِ؟؟ ما الذي تفعلينه هنا وسط السوق؟؟
ثم .. أين اختفيتِ هذه الأيام وماذا تريدين من هذا الغريب؟؟
ثم اقترب منها أكثر وهمس في أذنها: غيوم متى توافقين على زواجك بي؟؟ صدقيني أنكِ ستمتلكين أنتِ كل ما أملك وستعيشين معي في حياة حالمة ..
نظرت إليه بعينين غاضبتين ثم أمسكت بيد كريم ومشت به خطوات ...
وقبل أن تبتعد التفتت إلى رئيس الشرطة وقالت له بصوت مسموع: لو لم يبق على وجه الأرض إلا أنا وأنت ياجلال .. ثق. . .
أنني سأقتل نفسي قبل أن أسمح لك بالاقتراب مني.
ثم غادرت المكان بسرعة وبيدها كريم وهو يجر رجليه وراءها وبعض بقع الدم لا تزال على قميصه وأنحاء متفرقة من فمه وأنفه.
¥