أما كريم فقد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة على هذا القارب الضخم الذي بدأ يبتعد عن الساحل، ولم يكن يعي بشكل سليم كل تصرف يصدر عنه، وهو يعبر لهم بطريقته الساحلية الجديدة أن قراره الأخير سيكون في عالم غيوم حتى الموت، وأنه لن يبرح بعيداً بدونها مهما كلفه الأمر، وهو القسم الذي استبطنه البارحة في نفسه ..
دنى من السطح بخطوات عجلى واسعة .. ثم استخرج من جيب بنطاله قلادة من أصداف ومحارات تتوسطهن قطعة صفّير زرقاء تتلألأ، ظلت قابعة في مكانها المكين حتى اللحظة الحاسمة، وقد جاءت ..
فلبسها حول نحره وربطها من وراء عنقه وهو يمشي باتجاه الحافة وبدأت القلادة تعكس أشعة الشمس بصورة فريدة ورائعة لمحتها غيوم من وسط المغارة البعيدة هناك فأخرجتها من وسط الظلام الدامس وجاءت بها قبالة البحر، وقلبها يكاد يتزحزح من ارتجافه العنيف ..
ثم مزق قميصه وهو يخلعه، ورماه على أرض القارب وشعره الطويل يتطاير في الهواء الطلق ... ثم رفع يديه عاليا في الهواء، وقد ارتقى سياج حافة مؤخرة القارب وقال بأعلى صوته يريد إسماع أهل الجزيرة من بعيد: كرييييييييييييييييييييم ناكوبيندييييييييييييا غيوووووووووم
ثم أطبق بأسنانه البيضاء على حد شفرة السكين وقفز في الهواء قفزة عالية بعيداً عن جسم القارب ومروحته التي في عمق الماء ثم غاص هناك .. في نفس الوقت الذي كانت فيه غيوم هي الأخرى تركض بكل فرح وجنون باتجاه الموج القادم لملاقاة هذا الحبيب العائد من جوف أجمل وأنبل مفاجأة مرت بها في حياتها ..
وهو موقف لم يملك معه رجال القبيلة أنفسهم فخرجت جحافلهم بصفوف متراصة على الشاطئ إيذاناً باستعدادهم الكامل للدفاع عن صديقهم العزيز ..
أما العاشقان فقد غابا تماماً في جوف الماء ولم يظهر لهما على السطح أثر حتى الآن، وكل واحد في الفريقين يراقب المشهد وينتظر خروجهما في أي لحظة ..
كانت لحظات في غاية الروعة يقضيانها معاً تحت الماء .. لكن هذه المرة لا يدرون هل ستكون اللحظات الأخيرة .. أم الأولى التي تولد من جديد ..
أمر السيد حمدان القائد سميع الرحمن أن يوقف القارب على الفور وأن يتراجع إلى الوراء ببطء شديد ..
ثم خرجا معاً قرابة الشاطئ في مكان بعيد عن نقطة اللقيا، وقد لبست غيوم القلادة
معلنة للجميع أن ابن الحوت خطبها أخيراً في حضرة أبيه " الحوت " وأن الأسماك قد شهدت مراسم الخطبة .. والتتويج ..
وقد ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه أبيه الحقيقي السيد حمدان ... بل إنه كان أول من صفق لهما بحرارة كأول تهنئة يتلقيانها من بشر .. ثم تعالت هتافات الجميع من على القارب وسط ضحكات ممزوجة بدموع نزلت من رغد وسيرين .. أما رجال القبيلة فقد بدأوا يتراقصون على الشاطئ بحركات متمايلة ويطبلون على دروعهم كتعبير بدائي متوارث حين تعم الفرحة أرجاء قلوبهم
* * * * * * * * * * *
لم تدم مراسم الزواج المختصر وبقاء القارب على الجزيرة أكثر من يومين. كان بالكاد يكفي لغيوم وكريم أن يقفا آخر الليلة الأولى خاشعين ساعات طويلة أمام قبر أم غيوم التي واروا جثمانها في نفس ليلة الزفاف. " لقد كان زفافاً أولياً فقط والباقي سيكون هناك "
ولم تنطق غيوم وهي تقف بإطراق على قبرها وبجانبها " ابن الحوت " إلا بكلمة واحدة قالت له فيها: (((لقد كانت تتمنى قبل موتها أن تراك))).
وفي الليلة الثانية كان أهل القرية يحتفلون بأول زفاف من نوعه وبهذه السرعة في الترتيبات التي شارك فيها كل محب لابن الحوت وعروسه ..
وكم كانت دهشة كريم وغيوم وهما على مدخل الحفل، حين رأيا أم السيد " كبانجا " وقد جاءت تتكئ على ذراع ابنها السيد كبانجا ومعهما الطفلين التوأمين .. ثم أقبل صديقهم العزيز
أخيراً وما إن رآهما حتى احتضن بعضهم بعضاً في سعادة غامرة وقد اقترب منهم والد كريم في دهشة، قال له كريم: والدي .. أعرفك بصديقي العزيز كاماواتا .. فغمزته غيوم بعينها فاستدرك .. لالا أقصد إيكمواتا وأحياناً أسميه كاكاواتا ثم نظر إلى غيوم يستنجدها فقالت: إنه إهيكاواتا سيد حمدان وهو يتيم الوالدين .. حياه السيد حمدان بالإشارة ثم استعد الجميع للقاء حاكم الجزيرة شخصياً الذي لبى دعوة والد غيوم وحرص بدوره على التعرف على الضيف الكبير السيد حمدان الذي منحهم مبلغاً ضخماً من المال لبعض مشاريع الجزيرة المستقبلية، كما وعدهم بالمزيد من الدعم لأطفالها وأيتامها ..
أثناء حفل الزفاف هذا كان الجميع في غبطة وسرور وكان كريم وعروسه وأبوها والقائد سميع الرحمن وسيرين ورغد والحاكم، بالإضافة إلى السيد كبانجا وعدد من الحاضرين في الشرفة العليا من الحفل إذ استأذنتهم العروس فجأة حين لمحت ضيفاً ثقيلاً يدخل من الباب الرئيس للمكان ولم تفلح محاولات كريم أن يمسك بها ويضبط أعصابها قبل أن ترتكب حماقة غير محببة تفسد أجواء ليلتها الحالمة .. وقبل أن تصل إلى الضيف الثقيل الذي يمسك بمنديله على أنفه من أثر الوعكة الصحية، تناولت حلوى مدهونة بطبقة من الكريما البيضاء المخفوقة وتظاهرت أنها تعثرت في المشي فضربت بها في وجهه وقالت بصوت خافت: تفضل جلال هذه هدية من حطام السفينة التي غرقت .. فانفجر جميع الحاضرين يضحكون من شكل الرقيب جلال الذي جمدت أطرافه وهو يرى السيد الحاكم مع الحاضرين، فلم يجد بداً من تغطية الحرج فضحك معهم.
انتهت