ويرى ابن طفيل اختلاف الفيلسوف عن العامة بقدرته على إدراك الحقائق الإلهية بعقله وحدسه، أما العامة فهي بحاجة إلى من يرتقي بها إلى هذه المبادئ العالية عن طريق الحس والخيال، لهذا فشلت مهمة (حي) في مدينة آسال العاصية، في إقناع العامة بالإيمان عن طريق العقل والحدس.
وبما أن قصة (حي بن يقظان) قصة رائدة في العصور الوسطى لذلك من البديهي أن تؤثر بتلك القصص اللاحقة التي ظهرت في أوروبا، كما أثرت قصص ألف ليلة وليلة.
سنتناول في هذه الدراسة إحدى نماذج التأثر: قصة "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو (9) فنبحث عن نقاط اللقاء ونقاط الاختلاف.
"روبنسون كروزو":
يبدو لنا روبنسون كروزو شابا في العشرين من عمره، أحلامه أحلام الشباب في السفر والمغامرة، يستأذن والديه في السفر عبر البحار، ليحقق أحلامه، لكن والديه يرفضان الموافقة على هذه الفكرة حرصا على حياته، فيعصي أوامرهما، ليحقق رغبته في المغامرة والسفر، لذلك نجد والده غاضبا عليه يدعو الله أن يضع في طريق ابنه المتاعب.
فعلا حين يسافر روبنسون يصادف أهوالا كثيرة، كان آخرها تحطم السفينة، وغرق جميع ركابها، ماعدا روبنسون، وبعد أن يجتاز أهوالا كثيرة يجد نفسه في جزيرة نائية، لا يوجد فيها سوى الحيوانات المتوحشة فتكبد مشقة البحث عن حياة آمنة مستقرة فيها، لذلك يصنع من أشلاء السفينة المحطمة سكنا بسيطا، أما طعامه فكان مما تيسر له من ثمار الجزيرة، لكن المصادفة تساعده في تأمين غذائه من الحنطة، حين نفض كيسا (يريد استخدامه لبعض شؤونه) كان فيه بقايا حنطة، فهطلت الأمطار ونبتت البذور، فصار يعتني بها، إلى مرحلة الحصاد.
نلاحظ أن كروزو لا يبدأ من الصفر، وإنما يساعده في الاستمرار على قيد الحياة مؤن وأدوات حصل عليها من بقايا السفينة المحطمة، كما ساعدته الطبيعة بأن مدّته بالمواد الأولية (الخشب) ليستمر في العيش.
بعد فترة من الزمن يلتقي روبنسون بإنسان أسير، استطاع أن يهرب من أكلة لحوم البشر، فيسميه (جمعة) ويتخذه مساعدا له في عمله.
عاش روبنسون في الجزيرة مدة ثمان وعشرين سنة، إلى أن أتت مصادفة سفينة، يرحل على متنها إلى بلده، بعد أن يخوض صراعا مع رجال ثائرين على ربانها، وهكذا لاحقته المتاعب حتى آخر مراحل سفره!!
اللقاء بين "حي بن يقظان" و "روبنسون كروزو"
لو وقفنا عند السنة التي توفي فيها مؤلف " روبنسون كروزو" دانييل ديفو (1731م) وسنة وفاة ابن طفيل (1185م) للاحظنا أن مؤلف "حي بن يقظان" قد عاش قبل ديفو بحوالي خمس مئة سنة، وأن كلا الكاتبين قد عاش في إسبانيا فترة من حياته، لذلك كان تأثر ديفو بابن طفيل أمرا طبيعيا.
لو تأملنا الفضاء المكاني لكلا الروايتين للاحظنا تشابها كبيرا، فنحن أمام فضاء واحد تقريبا (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها إنسانا وحيدا، يحاول أن يفهم ويستكشف كل ما يحيط به، وبذلك نجد لقاء في تركيز القصتين على شخصية رئيسية واحدة، تعيش ظروفا متشابهة (العزلة، البدائية ... )
كذلك تبدو الشخصية الثانوية، في كلا القصتين، شخصية طارئة (آسال، جمعة) تأتي إلى الجزيرة بعد استقرار الشخصية الرئيسية، إذ تم اللقاء بها بعد مرور فترة طويلة من العزلة في الجزيرة، وقد لاحظنا أنها أضفت الحيوية على فضاء القصتين، وأسهمت في تجديد إيقاعهما.
نلمح في كلا القصتين الغاية التعليمية، فابن طفيل، كما لحظناه منذ المقدمة، يريد أن يدلل على وجود الله باستخدام العقل والحدس، دون استخدام الشريعة، لذلك جعل من (حي) إنسانا بدائيا يصل إلى الإيمان عن طريق استخدام العقل أولا ثم الحدس، كأنه يطلب من الناس أن يمعنوا النظر في هذا الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بعقولهم وقلوبهم، لا أن يكون إيمانهم إيمانا تقليديا، يحول التواصل مع الله تعالى إلى مجموعة من الطقوس لا علاقة لها بالقلب أو العقل.
أما دانييل ديفو فقد كانت غايته تربوية، إنه يتوجه إلى الشباب، الذي يعشق المغامرة والسفر، بالنصيحة، طالبا إليهم النظر إلى ما آل إليه حال روبنسون حين لم يستمع إلى رغبة والديه في عدم السفر، ونفّذ ما يدور في رأسه من أفكار، فعانى متاعب جمة استمرت حتى لحظات سفره الأخيرة.
¥