وكان رائدها بالي الذي شق الطريق للتفريق بين أسلوبين أحدهما ينشد التأثير في القارئ و الآخر لا يعنيه إلا إيصال الأفكار بدقة. وطور تلاميذه هذا الاتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير الأدبي , فالكاتب لا يفصح عن إحساسه الخاص إلا إذا أتيحت له أدوات ملائمة , وما على الأسلوبي إلا البحث عن هذه الأدوات.
4 - الأسلوبية الإحصائية:
تقوم على دراسة ذات طرفين , أولهما: هو التعبير بالحدث , و الثاني هو التعبير بالوصف , ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة , ويتم احتساب عدد التراكيب و القيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب , وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب و التفريق بين أسلوب كاتب و كاتب.
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18% , ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي و الحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.
5 - الأسلوبية النحوية:
تهتم بدراسة العلاقات و الترابط و الانسجام الداخلي في النص و تماسكه عن طريق الروابط التركيبية المختلفة , ومن هذه العلاقات: استخدام الضمائر و العطف و التعميم بعد التخصيص ... وهذه العلاقات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم جملة بعضها إلى جانب بعض مما يؤدي إلى تماسكها و ترابطها ..
وعلى هذا فإن الأسلوبية تواصل تأملها لعالم النص عن طريق القراءة المتعددة الوجوه , وتتحدد هذه الاتجاهات بعضها مع بعض في كيان عضوي يجذب القارئ و يستثير تساؤلاته.
ولعلي أقف قليلا مع هذه الدراسة الموجزة على نص أدبي اعتمده الشاعر وفقاً للمنهج الأسلوبي ...
استقبال القمر
إبراهيم ناجي
أقبل بموكبك الأغرّ ... ما أظمأ الأبصار لك!
العين بعدك يا قمر ... عمياء! والدنيا حلك!
تمضي وراء سحابةٍ ... تحنو عليك وتلثمك!
وأنا رهين كآبةٍ ... بخواطري أتوهمك!
كن حيث شئت فما أنا ... إلا معنىً بالمحال
أغدو لقدسك بالمنى ... وأزور عرشك بالخيال
وأقول صبراً كلما ... عزّ الفكاك على الأسير
روحي وروحك ربما ... طابا عناقاً في الأثير
مهما تسامى موضعك ... وعلا مكانك في الوجود
فأنا خيالك أتبعك ... ظمآن أرشف ما تجود
قمر الأماني يا قمر ... إني بهم مسقمِ
أنت الشفاء المدَّخر ... فاسكب ضياءك في دمي
أفرغ خلودك في الشباب ... واخلع على قلبي الصفاء
أسفاً لعمر كالحبابِ ... والكأس فائضة شقاء
خذني إليك ونجِّني ... مما أعاني في الثرى
قدحي ترنِّق اسقني ... قدح الشعاع مطهرا
واهاً لأحلام طوال ... وأنا وأنت بمعزلِ
نعلو على قمم الجبال ... ونرى العوالم من علِ
يحلل شكري عيّاد هذه القصيدة فيقول:
(يوحي عنوان هذه القصيدة بنوع من التفاؤل أو الفرح، فالاستقبال يكون لضيف عزيز نسعد بقدومه، أو لشخص عظيم نحتفل بلقائه، والوزن القصير المرن (مجزوء الكامل الذي تتعادل فيه المقاطع القصيرة والمتوسطة الطول) يزيد القصيدة إشراقاًَ.
ومناجاة القمر تستمر مع الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها.
ولعلنا وقد استرعى نظرنا امتداد الحوار بين الشاعر والقمر على طول القصيدة، نجد من الأوفق أن نبدأ تحليلنا الأسلوبي لها بملاحظة طريقة خطاب الشاعر للقمر.
والسمة المميزة لخطاب القمر هنا هي كثرة أفعال الأمر التي يراد بها الدعاء أو الرجاء أو التمني، وفعل الأمر هنا يقوم بترقيم القصيدة أو بتحديد بدايات الفصول، فالمقطع الأول يبدأ بفعل أمر (أقبل)، والمقطع الثاني يبد بفعل أمر كذلك (كن)، وبعد ثلاثة مقاطع تأتي بداية مختلفة ولكنها تؤدي وظيفة "الترقيم" كفعل الأمر أو أقوى منه، وهي النداء المكرر "قمر الأماني يا قمر" ويمكننا أن نلاحظ هنا ما في إضافة القمر إلى الأماني من حذف حرف النداء ثم كرر النداء بـ (يا) في ذات البيت، وفي الفصل الأخير تتعاقب ستة أفعال أمر في ثلاثة مقاطع وهم "اسكب، أفرغ، اخلع، خذني، نجني، اسقني" أما المقطع الختامي فيبدو أنه مميز عن الفصل السابق إذ بدئ باسم فعل مضارع يدل على التعجب "واهاً" وخلا من أي فعل أمر.
¥