و فيما يخص تهميش المتلقي مثلت القراءة المعطاة تحجيما لشريحة قراء النص المفترضة في شخص قارئ واحد، و ذلك عبر اختصار الممكنات الدلالية و التاويلية للنص في ما فهمه القارئ من النص وفق ذخيرته المعرفية الخاصة، و التي لا تمثل أبدا ما تتضمنه ذخيرة كل من القراء المحتملين للنص عبر زمن ممتد امتداد توثيق النص و بقائه مطروحا للقراءة. فاختلاف القراء بمكونات خلفياتهم المعرفية يضمن تعددا في التاويلات بعدد القراءات. حتى ان القارئ الواحد قد يختلف مع نفسه حين يكرر القراءة للنص نفسه في ظروف مختلفة.
و هنا يمكننا ان نناقش معطيات القراءة المعنية كلا على حدة:
أولاً:
وتقولين من أنا؟ أنا حلم مشرئب .. وبعض حلمي جراح
وهذا هو مطلع النص المنظوم
اقف عند (بعض حلمي جراح) فاجد ان الكاتب ذهب بالمعنى بعيداً حين جعل الجراح جمعاً بعضاً من حلمه فالقارئ يجهد كثيراً وهو يحاول استجماع الصورة مع انه يمكن للكاتب أن يصورها باسلوب أسهل ولا أدري هل امتنع عليه ذلك ابتكاراً أم انه فضل ان يتفلسف على حساب عقلية المتلقي.
هنا تفرض القراءة المعيارية على النص معايير منطقية تحاكم الصورة في اطارها، حيث تقضي البنية المنطقية لمنظومة اللغة بتطابق المبتدأ و الخبر دلاليا، و عليه ف"بعض " التي تتضمن معنى الجزئية هنا لا تستوعب بنية الجمع التي تمثلها " جراح ". و بذلك الاختلاف مع المعيار اللغوي يصطدم النص مع مألوف المتلقي فتشكل صعوبة في فهم النص و بالتالي التفاعل مع الصورة. و هنا تقع القراءة في خطأين: احدهما هو فرض البنية المعيارية المنطقية لسياق النص اللغوي على النص، و ذلك يتنافى مع الطابع الجمالي لبنية النص الادبي اللغوية، و التي تقوم على اثارة وعي المتلقي عن طريق الاصطدام بمألوفه من صور الواقع اليومي و العلاقات المنطقية التي تحكم هذا الواقع، و التي تمثلها البنية الدلالية لمنظومة اللغة. و ثاني الخطأين يتمثل في تحجيم الممكنات التاويلية للنص في ما تسمح به خلفية قارئ واحد تمثله القراءة المعطاة هنا.
ثانيا ً: أنا وجه مع النهار مطلّ يتوارى على رؤاه الصّباح)
يقول (مع النهار) والأصح ان يقول (من النهار) وهذا ابلغ وأكثر ربطاً للمعنى المنشود من قبل الكاتب.
هنا يفترض القارئ معنى مقصود للشاعر و يحاكم الممكنات التاويلية في ضوء معيار جمالي يحصر وظيفة النص في الجانب التوصيلي، أي أن النص هو وثيقة لا يجوز فهمها بمعزل عن مقاصد كاتبها. و ذلك يتنافى مع الطابع الجمالي للتفاعل مع النص الادبي، و الذي يقضي بانه _ ضمن ما تسمح به بنية النص من ممكنات تاويلية _ كلما زادت تاويلات النص و تعددت كانت القراءة مثمرة جماليا. ثم إن القراءة وقعت مرة اخرى في تضييق نطاق ممكنات النص الدلالية في حدود طاقة قارئ واحد.
ثالثاً: أنا حقل من الزهور تردّى رغم أنفي .. ومات فيه الأ قاح)
كلمة (تردى) جاءت عصبية بالنسبة لـ (حقل من الزهور) اقحمها الكاتب بينما الأولى أن يستقطب كلمة تكون أقرب لمعنى الذبول
هنا نكرر الشيء نفسه بالنسبة لفرض معيار دلالي على النص في انتقاء الالفاظ لخدمة التناسب و القرب من مألوف المتلقي.
رابعاً: فاتركيني .. منابت الشوك تنمو في دروبي .. إذا دعاني الرواح.)
عطفاً على (الرواح) وحملاً على معاناة الكاتب من تقدم العمر أرى أنه كان الأولى به أن يبدل (الشوك) بـ (الشيب) فتصبح العبارة أكثر ترابطاً حيث ان كلمة (منابت) تاتي دائماً مصاحبة لكلمة (الشيب)
و هنا يؤدي التعامل الاحادي الضيق مع النص الى تجاهل لفظة الدروب التي يناسبها الشوك، على حساب لفظة منابت التي يرى القارئ ان السيب يناسبها اكثر. و ذلك يتنافى حتى مع السياق اللغوي المعياري الذيتتحرك ضمنه القراءة المعنية، حيث المضاف هو تابع للمضاف اليه و ليس العكس فشبه الجملة: منابت الشوك / المسند اليه فيها هو الشوك، و عليه فكلمة: منابت لا ينبغي ان تحكم اختيار ما تضاف اليه.
و في النهاية تبقى القراءة المطروحة هنا مثمرة من جهة فتح منافذ لرؤية النص، و تدخل في تشكيل افق معرفي جمالي للقراءات التي تليها.
خالص شكري للمبدع الحربي و لمقدم القراءة الاخ " "
ـ[الحسين الشنقيطي]ــــــــ[14 - 11 - 2008, 08:19 م]ـ
أيتها الفضلة أسماء، القراءة التي صدرت بها قراءتك اقتصرت على الشكل وأغفلت المضمون الرحب للنص فعلا فمزقته أشلاء ولم يستبطن الناقد فيها الشاعر.
وما تفضلت به هو عمل الناقد الواعي الذي يضع نصب عينيه النص (شكلا ومضمونا) يتعامل مع الشكل من حيث سلامة اللغة ومع المضمون هل وفق الأديب في إعطاء
كل نفس ما يناسبها لتختلف القراءات حول النص في إسقاطات يبررها دائما رغم تبايناها كلما عدنا
إليه، وفقنا الله وإياك أيتها الناقدة الفاضلة أسماء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.