لا ليست المعارضة مناقضة. لانَّ المعارضة تدل على الإعجاب و تعرب عن الوفاء وتتصل بالبراعة الفنيّة التي تصل إلى درجة التحدي. أمّا المناقضة فتدل على الاختلاف بين الشاعرين وعدم اتفاقهما من حيث الأفكار
بشكل أساس. (5) فلماذا لا تعد المناقضات تقليداً؟ وتعد المعارضات تقليداً (على رأي بعض الدارسين)؟
أ لِأنَّ المعارضات أندلسية (مغربية) والمناقضات مشرقية؟ أم لأنَّ المعارضات لم تشتهر عند المشارقة كما اشتهرت عند المغاربة؟ فمن أراد أن يعرف المغاربة فلْيقرأ عنهم و لْيرَ كيف كانوا يهتمون باللغة أيما اهتمام
مما أعطاهم الموهبة في معارضاتهم.ومن أراد الاستزادة فلْيطلع على (اثر القرآن الكريم في الشعر الأندلسي منذ الفتح وحتى سقوط الخلافة) فيرى كيف تأثروا بالقرآن الكريم في شعرهم. فهل هذا تقليداً؟
هل أنَّ المعارضات كانت في الشعر فقط؟
(نظراً لثقافة العصر فإنَّ المعارضات كانت في الشعر و النثر بل حتى في الحياة اليومية وماذاك إلا لإعجاب الأندلسيين بأدب المشرق وتأثرهم به لأنَّهم كانوا يجدون فيه الوطن الأم الذي نزحوا منه وهم فرع من هذه الشجرة ومعروف أنَّ الفرع يعود إلى الأصل فأسماء مدن المشرق كانت في المغرب فقد نُقِل عن المقرّي أنَّ أبا الخطار حسام الكلبي كثُرَ أهل الشّام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرَّقهم في البلاد وانزل أهل دمشق البِيرَة لتشابههما وسماها دمشق وانزل أهل حمص أشبيلية وسماها حمص،وهكذا
وفي النثر مثل ذلك نشهده في اتخاذهم أسماء الكتب والمؤلفات مماثلة لنظائرها المشرقية واحتذائهم فيها مناهج مشابهة لكتب المشارقة فكتاب (العقد الفريد) لأبن عبد ربه حاكى فيه (عيون الأخبار) لأبن قتيبة، وكتاب ابن بسّام المشهور (الذخيرة) تأثر في تأليفه بكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي وليحيى بن الحدج المرسي كتاب (الأغاني الأندلسية) وهو كتاب يشبه كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الاصفهاني وهكذا ولأبن شرف القيرواني مقامات يعارض فيها البديع "بديع الزمان الهمذاني " كما عارض أبو حفص بن برد أبا الفضل ابن العميد في بعض رسائله الديوانية بل أنهم شبَّهوا ملوك الأندلس بالخلفاء العبّاسيين يقول ابن جيان: (إنَّ المعتضد كان يتخذ سيرة سميه الخليفة المعتضد العبّاسي قدوة له، ويقتدي بإخباره) بل حتى إطلاق ألقاب شعراء المشرق على شعرائهم فأبو الخطار حسام بن ضرار لقب بعنترة وابن زيدون لقب بالبحتري وحمدونة بنت زياد بالخنساء ويحيى الغزال شبه في خمرياته بأبي نؤاس وهكذا) (6) من هذا يتبين لنا أنَّ المعارضة كانت في صميم الأندلسيين وذلك لتغلغلها في الشعر والنثر وفي ثنايا حياتهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
5. الأدب الأندلسي / للدكتور منجد مصطفى بهجت ص 267
6. الأدب الأندلسي / للدكتور منجد مصطفى بهجت ص 271 – 273
أغراض المعارضات الشعرية
كما تقدَّم في تنوع المعارضات وعدم اقتصارها على الشعر فقط (في الشعر و النثر و أسماء المدن وغيرها) فمن باب أولى تنوعها في أغراض الشعر فنجد معارضات في المديح و الغزل و الاعتذار والهجاء والرثاء وفي الوصف وغيرها (وإذا كانت المعارضة تلتزم الوزن والقافية فإن موضوعها لا يتحدد بل يتعدد فالمُعارِض الكفء هو الذي يتابع الشاعر المُعارَض في قصيدته في كل غرض وموضوع كما يتابع الفارسُ الفارسَ في نزاله في كل خطوة لا يتجاوزه ولا يبعد عنه حتى ينتصر عليه) (7)
أمثلة للمعارضات
1) معارضة الأندلسيين للشعر الجاهلي:
(قال أمرؤ القيس: وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي
فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ
فانَّ الشاعر الأندلسي أبا المخشي عاصم بن زيد ينظر إلى صورة أمريء القيس من بعيد ويؤلف صورة أكثر إبداعا ويعبر عنها معارضاً بقوله:
وهم ضافني في جوفِ ليل ٍ كِلا مَوجِيهِما عِندي كبيرُ
فبتنا والقلوب معلَّقاتٌ وأجنحةُ الرياح بن تطيرُ
فالليل عند الشاعر الأندلسي بحر كبير ذو موج متلاطم في جوفه هم ثقيل وهو أيضاً طويل البحر الكبير المتلاطم الأمواج.وبين هذين الموجين تبقى القلوب معلَّقة من الخوف.) (8)
¥