تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تغنّ بالشعر إمّا كنت قائلهُ ... إنّ الغناء لهذا الشعر مضمارُ

ولذا قال القيرواني: كان الكلام كله منثوراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الامجاد وسمحائها الأجواد لتهتز أنفسها الى الكرم وتدلّ أبنائها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه، سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا (2).

ولكن ليس الأمر توهماً وإنما كما قلنا كان فطنة واستنتاجاً ولذلك سمي شعراً، كما انّ الكامل من الفنون لا يولد كاملاً وإنما مرّ بمراحل عديدة كما أسلفنا.

ويرى النقاد والأدباء أن الشعر العربي نشأ نشأة غنائية كغيره من أنواع الشعر الأخرى ولذلك فالشعر العربي القديم يدخل كله في حيز الشعر الغنائي ويؤيد الدكتور شوقي ضيف هذه الفكرة ببقايا العادات الموجودة في الريف من غناء الشاعر أو المغني بقصائد أبي زيد وعنترة وغيرهما مع الضرب على آلة الربابة (3).

وهذه الحالة هي إنعكاس لما كان معمولاً به في ذلك الوقت فقد كان المهلهل يغني ويغنى بشعره ومنه:

طفلة ٌ ما ابنة المجلّل بيضاء ... لعوبٌ لذيذة ٌ في العناق ِ (4)

ويقول أبو النجم العجلي في وصف قينة تلحن في غنائها:

تُغنّي فإن اليوم يوم من الصبا ... ببعض الذي غنى امرؤ القيس أو عمرو

فظلّت ْ تغنّي بالغبيط وميله ِ ... وترفعُ صوتاً في أواخره ِ كسرُ

ولعله يريد عمرو بن قميئة صاحبه المقرب (5)، وبيته هذا واضح الدلالة على أن امرئ القيس وعمربن قميئة كانا يتغنيان بشعرهما.

ومن ذلك عرف الاعشى بصَنّاجة العرب والصناجة صيغة مبالغة من صناج وهو صاحب الصنج وهي دوائر نحاسية يصفق بإحداهما على الأخرى، وقد قال في معلقته:

ومستجيب ٍ تخال الصنج يسمعه ُ ... إذا ترجّع فيه القينة الفضلُ

والصناجة أيضاً المرأة صاحبة الصنج، قال الشاعر:

إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصناجة ٌ تجذو على كل منسم ِ

ويدل على ارتباط الغناء بالشعر أيضاً خروج هند بنت عتبة وجماعة من نساء قريش في غزوة أحد يضربن على الدفوف وكانت تغني بقطعة من الشعر منها:

إن تفبلوا نعانق ْ ... ونفرش النمارق ْ

أو تدبروا نفارق ْ ... فراق غير وامق ْ (6)

وذهب البعض مذهباً بعيداً حين رووا بيت عنترة بن شداد العبسي في اول معلقته على الصيغة التالية:

هل غادر الشعراء من مترنّم ِ ... أم هل عرفت الدار بعد توهّم ِ

بمعنى أن الشعراء ترنموا بشعرهم ولم يتركوا موضعا ً يصلح للغناء والترنم والا وفعلوا ذلك (7). أقول إن الرواية المشهورة هي:

هل غادر الشعراء من متردم ِ

والمتردم هو الموضع الذي اخلق واسترقع، معناه أن الشعراء ما انفكوا يبكون على اطلال الأحبة فهل أفعل ذلك أنا، وهو استفهام متضمن معنى النفي.

وأشاد يزيد بن ضرار الغطفاني ويكنى مزرداً، بطبيعة العرب في التغني بالجيد من الشعر،

فقال:

زعيمٌ لمن قاذفته بأوابد ٍ ... يغنّي بها الساري وتحدى الرواحل ُ (8)

نستنتج من ذلك أن العرب اهتدوا إلى الشعر من خلال الغناء وهو القاسم المشترك بين الحداء والعمل الجماعي ففي كلاهما كان الغناء هو الاساس، قال الراجز:

حدوتها وهي لك الفداء ُ ... إن غناء الإبل الحداء ُ

وقد شعروا (علموا) بميزة الشعر عن غيره من الكلام وشعروا بفروعه ولذلك سموه شعراً والشعر معناه العلم والفطنة أي انهم علموا وفطنوا إلى خصوصية هذا الكلام فإذا أرادوالقول فيه قصدوه وأخذوا يزيّنون الكلام ويزخرفونه، ولذلك دخل الشعر في باب الصناعات لإحتياجه إلى لغة متميزة في مفرداتها وجموعها ومجازها ومستعارها، ولهذا السبب نجد كلمة شاعر عند اليونانيين القدماء معناها صانع (9).

وهناك من يقول أن العرب قد عرفت الحداء قبل الغناء وإنها اشتقت الغناء من الحداء (10) وهذا القول في الحقيقة لا معنى له فالحداء والغناء كلاهما مد الصوت بالكلام ورفعه وكذلك البكاء وإنما الحداء مختص بسوق الإبل والبكاء مختص بالحزن وأما الغناء فمعنى مطلق، ففي هذه الألفاظ خصوص وعموم، فكل حداء غناء وليس العكس صحيحاً.

وعليه استنتج الدكتور شوقي ضيف أن أقدم البحور ظهوراً هو أسهلها عروضاً وهو المتدارك لأنه يتكون من سببين متجاورين فقط (فعلن) ذلك أن الأسباب اسهل نطقاً من الأوتاد والفواصل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير