تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و لم يكن هذا الإعلام و أهله الطيبون هم السبب الوحيد في إسقاط شعرية العشماوي، بل كان هو نفسه سببا رئيسا في ذلك؛ ذلك أنه لم يحترم فنه و قراءه، و لم يقدر ثقتهم به، و لم يحاول تطوير أدواته الفنية و مواكبة اجتياحات الشعرية الحديثة، بل ظل مراهنا على المضامين المكررة التي ضمنت له الشهرة قديما، فاستمرأ الأضواء و اعتاد عليها دون أن يعبأ بشيء آخر، وواصل مسيرته الشعرية كما أرادت الشهرة لا كما أراد الفن، و أصبحت المطابع تقذف بالديوان تلو الديوان دون أن يقدم واحد منها جديدا يذكر؛ فالطرح هو الطرح، و اللغة هي اللغة، و الرؤية هي الرؤية، والمأساة أن الاحتفالية هي الاحتفالية .. !!

إن كون العشماوي يكتب في مضامين غالبها خير لا يعني هذا أنه يحق له أن يسمي ما يطرحه أدبا و ما هو بالأدب لمجرد أنه هادف و خيّر، فالأدب الإسلامي يتكون من كلمتين أولاهما (و أؤكد على أنها الأولى) هي كلمة (أدب) .. تجاهل العشماوي هذا القيد و راح يستغل عواطف الناس بالوعظ المباشر زاعما أنه شعر .. !

إن الحديث عن أزمة الشكل و المضمون مستهلك منذ زمن بعيد؛ منذ الجاحظ و معانيه المطروحة في الطريق، و مرورا بحشد كبير من النقاد القدامى و المحدثين، و انتهاء بالنقلة المعرفية التي طرأت على النقد أخيرا مع بزوغ شمس كثير من المناهج الحديثة التي تناولت الرؤية/المضمون و الجسد/ الشكل، ومن نافلة القول إن ارتباط الرؤية الشعرية بجسد النص ثراء و عمقا هو وحده الذي يكفل للقصيدة الخلود و يسبغ عليها الجمال، و هذا مالم يعه العشماوي - بقصد أو دون قصد- فلم يطور رؤيته و لا جسد نصه، و ظل واقفا في مكانه الأول و الدنيا تتقدم بسرعة مذهلة؛ ولذا كان من الموضوعي أن أقول: إن العشماوي كان شاعرا في أواخر التسعينات و بدايات القرن الجديد، لكنه انتهى بعد ذلك .. !

إن إصرار العشماوي على طرق موضوعات محددة ليس عيبا للوهلة الأولى، بل إن تبني الشاعر لقضية ما أو مبدأ ما لهو دليل على وعيه و إيمانه برسالته، و لكن المصيبة أن شاعرنا - مع إصراره على مضامين محددة لم يرتق برؤيته و طريقة معالجه، و لا حتى بلغته و أدواته الفنية، فجاء شعره التالي صورة ممسوخة باردة عن شعره السابق، و من هنا كان نصه التالي ابنا غير شرعي لنصه السابق .. !

إن إفادة الشاعر من تجاربه و نصوصه الأولى أمر محمود و حسن مالم يكرر نفسه فيها، و يبقى على مستوى الرؤية و اللغة نفسها كما فعل العشماوي، و لنأخذ القضية الفلسطينية مثلا، و لنقارن بين ظهورها في شعره وظهورها في شعر درويش - بوصفه متبنيا لها كالعشماوي - سنجد فرقا مذهلا و مخجلا و محزنا أيضا .. !

إن الشاعر الجدير بالبقاء هو الذي يتقدم، و يتطور، و يفيد من تجاربه، و ينمي موهبته، ويثريها بكل جديد؛ ذلك أن المتلقي أيضا يتطور ذوقيا، فليس بالضرورة أن ما كان يهزه بالأمس ظل كذلك اليوم، بل ربما لم يحرك فيه شيئا، و لنتأمل هذه الشواهد التي كانت تعجبنا قبل زمن:

هذي الحجارة يا أبي لغة لنا **** لما رأينا أننا لا ننصف

لما رأينا أن حاخاماتهم **** يتلاعبون بنا فيرضى الأسقف

لما رأينا أن أمتنا على **** أرض الخلاف قطارها متوقف

ماذا نؤمل يا أبي من فاسق **** يلهو ومن متدين يتطرف؟

جيش الحجارة يا أبي متقدم **** والمعتدي بسلاحه متخلف

و قوله:

إن التطرف أن يسافر مسلم **** في لهوه سفرا طويلا مرهقا

إن التطرف أن نرى من قومنا **** من صانع الكفر اللئيم وأبرقا

إن التطرف أن نبادل كافرا **** حبا ونمنحه الولاء محققا

إن التطرف أن نذم محمدا **** والمقتدين به ونمدح عفلقا

إن التطرف أن نؤمن بطرسا **** وهو الذي من كأس والده استقى

إن التطرف وصمة في وجه من **** جعلوا صليبهم الرصاص المحرقا

و قوله:

يا قُدسُ صبراً فانتصاركِ قادمٌ **** واللِّصُّ يا بَلَدَ الفداءِ جَبَانُ

حَجَرُ الصغير رسالةٌ نُقِلَتْ على **** ثغر الشُّموخ فأصغت الأكوانُ

ياقدسُ، وانبثق الضياء وغرَّدتْ **** أَطيارُها وتأنَّقَ البستان

يا قدس، والتفتتْ إِليَّ وأقسمتْ **** وبربنا لا تحنَثُ الأَيمانُ

واللّهِ لن يجتازَ بي بحرَ الأسى **** إلاَّ قلوبٌ زادُها القرآنُ

لكننا اليوم لا نراها سوى نظم هزيل لا يمت للشعر بقربى و لا بغير قربى .. !

و ماذا بعد .. ؟

لكي يكون كلامنا ذا ثمرة يجب التأكيد على أن العشماوي إنما يمثل لبنة من لبنات الأدب الإسلامي، و يهمنا أن يظل أدبنا بخير بغض النظر عن الأشخاص الذين لا قدسية لهم.

إن الأدب الإسلامي قوي تاريخا و حضورا و إبداعا، لكن بعضا من المتحمسين له يظنونه من الضعف إلى حد أن تضره أي نسمة هواء، و لو كانت مرسلة لدفع الأشرعة .. !

لقد ولد الأدب الإسلامي رشيدا، و لكنهم مازالوا يعدونه طفلا غريرا لا يستطيع أن يمشي وحده في طريق دون أن يزيلوا عنه ما يظنونه أحجارا و أشواكا.

إن بعض أنصاره يظنون كل صيحة عليهم، و يؤمنون بنظرية المؤامرةإلى حد مَرَضَيّ؛ فكل من تكلم أو أبدى نقدا فهو غاز لنا في عقر دارنا .. ! و هؤلاء يحسبون أنهم ينفعون الأدب الإسلامي و هم في الحقيقة يضرونه، و كل ما يحتاجه أدبنا تنقيته من نصوص تنسب إليه و هو منها براء، و لو أسكتنا أصوات الغيورين عليه عن طريق القدح في انتماءاتهم أو عقائدهم فلن نستطيع حتما إسكات التاريخ.

لقد تغير الزمان، و انحسر مد الحداثة، و هي أبرز خصوم الأدب الإسلامي، فهل نتخذ هذا زمانا مناسبا لمراجعة أنفسنا و عواطفنا، و تحديد ماالذي يحتاجه منا أدبنا و ما الذي هو في غنى عنه، و لا سبيل لنا من أجل هذا إلا بإمعان البصر و البصيرة في مثل هذه الأمور، و ألا نسقط في حمأة تقديس الأشخاص؛ فإننا عرفنا العشماوي بالأدب و لم نعرف الأدب به، أتمنى أن نفعل و ألا تأخذنا بنيات الطريق؛ فنفيق و قد ضيعنا في الصيف القضية .. !

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير