و قال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. الآيات}، قال: نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن، قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره فقال سبحانك هذا بهتان عظيم، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد. الإكليل في استنباط التنزيل (ص 190).
هذه الأقوال المتقدمة عن هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح أن الأمة مجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و قذفها بما رماها به أهل الإفك، فإنه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها و طهارتها رضي الله عنها، و أن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام.
وأما حكم من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم، ففيه قولان:-
أحدهما: أن حكمه كحكم ساب غيرهن من الصحابة؛وحكم ساب الصحابة و عقوبته هي:-
1 – ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو تنقصهم وطعن في عدالتهم و صرح ببغضهم و أن من كانت هذه صفته فقد أباح دم نفسه و حل قتله، إلا أن يتوب من ذلك و ترحم عليهم.
و ممن ذهب إلى ذلك: الصحابي الجليل عبدالرحمن بن أزى و عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي و أبو بكر بن عياش، و سفيان بن عيينة، و محمد بن يوسف الفريابي و بشربن الحارث المروزي و غير كثير.
فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل، و إلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
2 - و ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل، بل يكتفي بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يروعه و يزجره حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب والفواحش المحرمات، وإن لم يرجع تُكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة.
و ممن ذهب إلى هذا القول: عمر بن عبدالعزيز و عاصم الأحول و الإمام مالك و الإمام أحمد و كثير من العلماء مما جاء بعدهم.
الثاني: و هو الأصح من القولين على ما سيتضح من أقوال أهل العلم أن من قذف واحدة منهن فهو كقذف عائشة رضي الله عنها.
التوضيح: أخرج سعيد بن منصور وابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قرأ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات}، قال: هذه في عائشة و أزواج النبي صلى الله علية وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، و جعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة، ثم قرأ {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} إلى قوله {إلا الذين تابوا}، ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة، ثم تلا هذه الآية {لعنوا في الدنيا و الآخرة ولهم عذاب عظيم}، فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبل رأسه لحُسنِ ما فسّر. الدر المنثور (6/ 165) و جامع البيان (18/ 104).
قال ابن تيمية: فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذىً لزوجها كما هو أذى لابنها، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زناء امرأته يؤذيه أذىً عظيماً، و لهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت، و درء الحد عنه باللعان و لم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال. الصارم المسلول (ص 45).
و قد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فقد قال أبو محمد ابن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة و تكذيب للرب – جلا وعلا – في قطعه ببراءتها، قال: و كذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق، لأن الله تعالى يقول {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، أولئك مبرؤون مما يقولون}، فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين. المحلى (13/ 504).
¥